هيمنة الدولار الأميركي أم تقويضه.. أيهما أفضل للاقتصاد العالمي؟

هيمنة الدولار الأميركي أم تقويضه.. أيهما أفضل للاقتصاد العالمي؟

يرى بعض المحللين أن الدولار أسوأ عملة احتياطية، حيث تحمل هيمنة الدولار الأميركي جانبا سلبيّا للعب دور الركيزة الأساسية للاقتصاد العالمي، إذ يجب على الولايات المتحدة السماح لرأس المال بالتدفق بحرية عبر حدودها وامتصاص المدخرات واختلالات الطلب في البلدان الأخرى؛ أي يجب عليها معالجة العجز لتعويض فوائض الآخرين والسماح لهم بذلك.

وقال الكاتب مايكل بيتيس، في تقرير نشرته مجلة “فورين أفيرز”(Foreignaffairs) الأميركية إن الولايات المتحدة والعالم بأسره سيستفيدون من دولار أميركي أقل هيمنة، ولكن على عكس توقعات البعض؛ فإن تبني عملة احتياطي عالمية بديلة لن يفيد بالضرورة البلدان ذات الفائض مثل البرازيل؛ حيث ستجبرهم بدلا من ذلك على مواجهة أسباب الفوائض ومعالجتها من خلال تقليص الإنتاج وإعادة توزيع الدخل.

وذكر الكاتب أن الرئيس البرازيلي لويس إيناسيو لولا دا سيلفا كان قد طالب، في قمة أبريل/نيسان الماضي لتجمع بريكس (البرازيل وروسيا والهند والصين وجنوب أفريقيا) بمعرفة سبب استمرار العالم في بناء كل تجارته تقريبا على الدولار الأميركي، وهو ما جدد الجدل الذي احتدم في السنوات الأخيرة حول مستقبل الدولار الأميركي باعتباره العملة العالمية المهيمنة.

الذهب والفضة والدولار والعجز
أفاد الكاتب أن العملات والاحتياطيات التي كانت تمول التجارة الدولية سابقا كانت تتكون أساسا من العملات المعدنية (العملات الذهبية والفضية) وذلك قبل صعود الدولار في النصف الأول من القرن الـ20، إلى الحد الذي بدأت فيه البنوك المركزية في الاحتفاظ بالعملات الأجنبية كجزء من احتياطياتها في القرن الـ19، فقد فعلت ذلك بشكل أساسي في شكل عملات معدنية أو عملات ذهبية اعتقدت أنها قابلة للتحويل إلى عملة محددة، موضحا أنه عندما يقول المؤرخون إن الجنيه الإسترليني كان العملة الاحتياطية المهيمنة قبل الدولار الأميركي، فإنهم يقصدون أن التزام المملكة المتحدة بالحفاظ على قابلية التحويل كان يُنظر إليه على أنه أكثر مصداقية من التزام البنوك المركزية الأخرى، والتي قد تحتفظ بالتالي بالجنيه الإسترليني بالإضافة إلى الذهب.

وقال الكاتب إنه تم تنظيم التجارة العالمية وتدفقات رأس المال بشكل مختلف تماما في العالم القديم عما هو عليه في عالم اليوم الذي يهيمن عليه الدولار. ففي السابق؛ كانت الاختلالات التجارية محدودة بقدرة كل دولة على إدارة التحويلات النوعية، بغض النظر عن حجم اقتصاد الدولة أو مدى قوة بنكها المركزي، فيمكن استخدام عملتها لتسوية التجارة فقط إلى الحد الذي كان يُنظر إليه على أنه قابل للاستبدال بالكامل بمواد محددة. ومع ارتفاع الحيازات الأجنبية من عملة البلد مقارنة بالممتلكات المحددة لبنكها المركزي؛ فإن الوعد بقابلية التحويل سيصبح أقل مصداقية، وبالتالي تثبيط استخدام العملة.

الدولار الذي لا غنى عنه
وذكر الكاتب أن هذا لا يعني أن الولايات المتحدة يجب أن تعاني دائما من عجز لربط نظام التجارة العالمي بالدولار كما جادل الكثيرون، لكن هذا يعني أنه عندما يحتاج العالم إلى المدخرات، تصدر الولايات المتحدة المدخرات وتدير الفوائض التجارية، وعندما يكون لدى العالم مدخرات فائضة، تستورد الولايات المتحدة المدخرات وتواجه عجزا تجاريا.

ووفقا للكاتب فإن الولايات المتحدة عندما نَظمت التجارة العالمية وتدفقات رأس المال في عشرينيات القرن الماضي حتى السبعينيات -وهي فترة 5 عقود كانت خلالها العديد من البلدان بحاجة ماسة إلى إعادة بناء القدرة التصنيعية والبنية التحتية التي دُمرت في الحربين العالميتين- ومع تدمير الدخل الأوروبي والآسيوي بسبب الصراع؛ احتاجت البلدان في هذه المناطق إلى مدخرات أجنبية للمساعدة في إعادة بناء اقتصاداتها. ونظرا لأن الولايات المتحدة كانت الدولة الرائدة في العالم من حيث الفائض التجاري في هذه الفترة، فقد تحركت بسرعة لتلبية الحاجة من خلال تصدير المدخرات الزائدة، مما جعل الدولار العملة العالمية المهيمنة في هذه العملية.

ولكن بحلول أوائل السبعينيات؛ كانت معظم الاقتصادات الرائدة في العالم قد أعادت بناء نفسها من ويلات الحرب. والآن أصبح لديهم مدخرات خاصة بهم يحتاجون إليها لدفع اقتصاداتهم إلى الأعلى، وكانت الولايات المتحدة ملزمة، مرة أخرى، بسبب انفتاحها على رأس المال الأجنبي، وأسواقها المالية المرنة، وحكمها عالي الجودة، يعني أنها استوعبت الكثير من المدخرات الفائضة لبقية العالم. وليس من قبيل المصادفة أن السبعينيات شهدت بداية تضاؤل الفوائض الكبيرة والمستمرة في الولايات المتحدة، مما أفسح المجال بحلول الثمانينيات لعجز كبير ومستمر حتى يومنا هذا.

لا يمكن لأي عملة أخرى أن تحل محل الدولار الأميركي
وأوضح الكاتب أن هذا الاستعداد للسماح بتدفق رأس المال بحرية وامتصاص المدخرات واختلالات الطلب لبقية العالم هو ما يدعم الدور المهيمن للدولار الأميركي، وهو الدور الذي لم تلعبه أي دولة أخرى قبل الولايات المتحدة بنفس القدر تقريبا، ولهذا السبب لم تهيمن أي عملة أخرى على التجارة الدولية وتدفقات رأس المال كما يفعل الدولار اليوم. علاوة على ذلك؛ لا توجد دولة أو مجموعة دول أخرى -لا الصين أو اليابان أو دول البريكس أو الاتحاد الأوروبي- مستعدة للعب هذا الدور أو ستكون قادرة على ذلك بدون إجراء إصلاح جذري للاقتصادات الأخرى الناطقة بالإنجليزية التي تلعب أدوارا مماثلة، وحتى تتوقف عن استيعاب ما يصل إلى 80% من فائض الإنتاج والمدخرات الزائدة في البلدان ذات الفائض مثل البرازيل والصين وألمانيا وروسيا والمملكة العربية السعودية؛ فلن تتمكن هذه البلدان بعد الآن من تحقيق فوائض، والتي بدونها سيضطرون إلى خفض الإنتاج المحلي حتى لا يتجاوز الطلب المحلي الضعيف. بعبارة أخرى، فإن الاستخدام الواسع للدولار فقط هو الذي سمح بالاختلالات الهائلة التي ميزت الاقتصاد العالمي خلال الـ50 عاما الماضية.

عالم ما بعد الدولار
وأفاد الكاتب أن الدولار الذي لا غنى عنه ليس بالشيء الجيد، سواء بالنسبة للولايات المتحدة أو لبقية العالم؛ حيث سيكون الاقتصاد العالمي في وضع أفضل إذا توقفت الولايات المتحدة عن استيعاب اختلالات المدخرات العالمية التي سمحت للاقتصادات الفائضة بتثبيط الطلب العالمي، كما سيستفيد الاقتصاد الأميركي على وجه الخصوص لأنه لم يعد مضطرا إلى استيعاب آثار السياسات التجارية في البلدان ذات الفائض من خلال ارتفاع معدلات البطالة أو زيادة الديون. وصحيح أن واشنطن و”وول ستريت” ستشهدان تقليص سلطاتهما، لكن الشركات الأميركية ستنمو بشكل أسرع، وسيكسب العمال الأميركيون المزيد.

واختتم الكاتب تقريره قائلا إن الوصول إلى عالم ما بعد الدولار لن يكون سهلا؛ حيث إن الجزء الأكبر من الجدل الدائر حول الزوال النهائي للدولار هو إلى أي مدى سيكون التغيير مدمرا اقتصاديا بالنسبة للبلدان ذات الفائض المستمر، والتي سيتعين عليها تقليص حجم الصناعات بأكملها بشكل كبير والتي يتم توجيهها حاليا إلى الصادرات.

المصدر : فورين أفيرز