التقويض والمواجهة أساس خطة الولايات المتحدة لطرد فاغنر من أفريقيا

التقويض والمواجهة أساس خطة الولايات المتحدة لطرد فاغنر من أفريقيا

يحفز التعثر الذي تواجهه روسيا عن طريق مجموعة فاغنر في ملء الفراغ الأمني والعسكري في عدد من الدول الأفريقية، الولايات المتحدة على استعادة نفوذ الغرب في مالي بعد الانسحاب الفرنسي، لكن مراقبين يقللون من نجاح الإستراتيجية التي وضعتها واشنطن والتي تقوم على التقويض والمواجهة بالاعتماد على عناصر محلية.

عكست زيارة وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف إلى مالي قبل أيام مخاوف موسكو من أن تُترجم المواقف والتصريحات الغربية الصارمة حيالها إلى تحركات فعلية على الأرض وحرمانها مما حققته من نفوذ في عدد من دول أفريقيا مؤخرا، مستفيدة من الفراغات والارتباكات الغربية.

وكشفت مصادر لـ”العرب” أن خطة الولايات المتحدة تقوم على التقويض والمواجهة، وهما يعتمدان على دعم الحكومات المحلية أو الجماعات المعارضة لمواجهة موسكو وتصويرها على أنها قوة جاءت للبحث عن نفوذ لها، مع تذكير بفترة الصراع بين الروس والتنظيمات المتطرفة سابقا.

وأكدت المصادر أن هذه السياسة لن تؤدي إلى نتائج ملموسة، لأن موسكو لم تأت محتلة أو مستغلة للموادر الطبيعية، ودعمها للأنظمة انبثق من خيبة الأمل في الكثير من القوى الغربية، والتي استثمرت في الجماعات الجهادية بدلا من وأدها، ضمن لعبة توزيع أدوار بينها والحكومات، وهو ما يجعل الحركات الصاعدة في غرب أفريقيا أقل استعدادا للصدام مع موسكو ممثلة في قوات فاغنر.

وأشارت إلى أن تكرار مهاجمة المسؤولين الغربيين لفاغنر وتصنيفها كمنظمة إجرامية عابرة للحدود من قبل واشنطن، لن يثني موسكو التي تعلم أن خطوط الدفاع عن مصالحها تبدأ من خارج أراضيها.

كما أن الوعود الغربية بضخ المليارات من الدولارات لبعض الدول الأفريقية تشير إلى أن الولايات المتحدة وحلفاءها عازمون على تغيير المعادلة التي طرأت، بعد انتشار فاغنر في منطقة الساحل الأفريقي ومد بصرها إلى الشرق الأفريقي، مستغلة تواجدها المتصاعد في الشمال (ليبيا) والوسط (السودان) لإحكام سيطرتها.

ما يحفز الولايات المتحدة على التدخل لاستعادة النفوذ في مالي وبعض دول الساحل الأفريقي، هو فشل روسيا حتى الآن في ملء فراغ أمني وعسكري ظهر عقب انسحاب القوات الفرنسية في أغسطس الماضي.

وبدا أن المحور الغربي يستعيد زمام المبادرة في ضوء عجز موسكو عن تعويض مالي عن جهود شركائها السابقين وجهود قوات حفظ السلام في المناحي الإنسانية والاقتصادية.

وأدى رفض مالي مواصلة التصاقها بالشركاء التقليديين في الغرب وتوتر علاقاتها بقوات حفظ السلام إلى توريطها في نزاعات غير متكافئة مع الدول الغربية وجيرانها، ما تمخضت عنه متاعب يصعب أن تخففها موسكو.

ومنعت السلطات المالية التعاون مع المنظمات الدولية الممولة من فرنسا في نوفمبر الماضي، وطردت ممثل المجموعة الاقتصادية لدول غرب أفريقيا “إيكواس” وانسحبت من دول الساحل والصحراء في مايو الماضي.

فاغنر لم تصنع فارقا في ما يتعلق بمجابهة الإرهاب، وزادت الهجمات الإرهابية بنحو 30 في المئة في الأشهر الستة الماضية

اصطدمت السلطات العسكرية الانتقالية في مالي بفرنسا التي لم يفقدها انسحاب قواتها الجزئي نفوذها الواسع بالمنطقة، وخسرت التعاون الأميركي بسبب الإصرار على التعاون مع فاغنر وتبني خطاب شعبوي في التعامل مع القضايا الدولية.

خلق قطع مالي الخطوط وهدم الجسور مع القوى والهيئات الدولية وضعا معيشيا مأساويا تعجز روسيا وحدها عن التعامل معه، فهي بالكاد تستطيع مساعدة نفسها في ضوء انخراطها في حرب أوكرانيا.

وأدى التفكير الأحادي الذي يتمحور حول الملف الأمني وسبل تأمين استمرار هيمنة السلطة العسكرية عبر جهود شركة أمنية أجنبية (فاغنر)، إلى إهمال المعالجات الشاملة وتفاقم الأزمة الإنسانية والمعيشية.

ولا يرجع تعرض مئات الآلاف من المدنيين في مالي وبوركينا فاسو، التي طلبت من باريس سحب قواتها، لخطر الجوع، وفقا للتقرير الأخير للأمن الغذائي للأمم المتحدة، فقط إلى الآثار المترتبة على وباء كورونا والحرب الأوكرانية، بل أيضا إلى شح التمويل الدولي وتراجع عمل المنظمات الإنسانية.

لم يستفد الشعب المالي على مستوى تحسين الوضع المعيشي ومشاريع التنمية بعد أن حلت عناصر فاغنر محل القوات الفرنسية.

لم تضع فاغنر حدا لتمدد نفوذ الإرهابيين ولم تحل دون تنفيذهم هجمات بشكل شبه يومي، ما أدى إلى نزوح المئات من الآلاف وهجرة المواطنين لحقولهم ومنازلهم، فيما ركزت على حماية السلطة العسكرية الحاكمة وقمع الاحتجاجات ومراقبة المجتمع المدني.

لم تصنع فاغنر فارقا في ما يتعلق بمجابهة الإرهاب والحد من خطورته وتمدده، وزادت الهجمات الإرهابية بنحو 30 في المئة في الأشهر الستة الماضية، وفقا لتقديرات أميركية رسمية.

ورغم الصراع بين فرع داعش (تنظيم الدولة في الصحراء الكبرى) وفرع القاعدة (جماعة نصرة الإسلام والمسلمين)، إلا أنهما اجتمعا على تحقيق هدف مشترك مؤداه إثبات فشل سياسات الحكومة العسكرية مع شركائها الروس الجدد كما فشلت مع الشركاء الفرنسيين.

وتبدو على هذا التطور بصمات أجهزة المخابرات الغربية التي اعتادت توظيف ورقة الإسلاميين في مناطق عدة بصورة تحقق أهدافها السياسية.

قطع مالي الخطوط وهدم الجسور مع القوى والهيئات الدولية خلق وضعا معيشيا مأساويا تعجز روسيا وحدها عن التعامل معه

وضاعف تنظيم داعش من هجماته ضد القوات الأمنية المحلية والأجنبية وضد المدنيين ووسع رقعة سيطرته، حيث وصل لأول مرة إلى ميناكا شمال مالي، وبات أكثر من ثلثي أراضيها خاضعا للجماعات المتطرفة.

أدت المذابح التي ارتكبها داعش ضد القرويين والمزارعين إلى نزوح العشرات من الآلاف بمنطقتي ميناكا وجاو، ما جعل مساحات شاسعة من الصحراء الكبرى فعليا تحت سيطرة التنظيم.

ولا يواجه فرع داعش تهديدا كبيرا من القوات الحكومية أو من فاغنر الغارقة في ممارسات شبيهة ضد المدنيين، ومنشغلة أكثر في التنقيب عن المعادن وتحقيق أكبر مكاسب مادية.

يأتي التهديد المحوري لداعش من غريمه القاعدة، إذ تتنافس الأجنحة التكفيرية على من يحوز النصيب الأكبر من الثروات ويسيطر على مناطق مالي الإستراتيجية.

ويحرز داعش تقدما في ما يتعلق بالتمدد في ميناكا التي تتميز بقربها من النيجر وثرواتها النفطية والغازية والحيوانية وكنوزها من الذهب وموارد الطاقة، علاوة على الارتكاز بالمثلث الحدودي الذي يقود إلى الحدود الليبية وتستخدمه الجماعات في عمليات التهريب غير المشروعة.

ويحاول فرع القاعدة (جماعة نصرة الإسلام والمسلمين) تعويض تراجعه النسبي عبر الحفاظ على حاضنته الاجتماعية، بتقديم نفسه كحام للسكان في مواجهة وحشية ممارسات داعش وعجز مجموعة فاغنر عن حمايتهم، والتي يتهمها إعلام الجماعة هي الأخرى بارتكاب مذابح ضد المدنيين.

لم تجد الجماعات المتمردة جميعها صعوبة في شيطنة روسيا وخلق عدو جديد أكثر وضوحا، حيث ينظر غالبية الجهاديين إليها على أنها خصم صريح يجب محاربته.

فقد التأييد الشعبي للتدخل الروسي قيمته ولم تعد المشاعر المؤيدة لموسكو ولا المؤيدة للغرب من العوامل التي ترجح كفة أي منهما، وصار الأمل الوحيد للشعب المالي معلقا بمن ينقذه من انعدام الأمن والجوع والتشرد والنزوح وبمن يغير أوضاعه المتردية إلى الأفضل، ولا يهم أكان من الشرق أو الغرب.

وبعد فقدانهم سبل عيشهم بسبب الإرهاب والجفاف وتعرضهم لخطر المجاعة وتفاقم الوضع الأمني وانتشار الفوضى، لا يملك المواطنون ترف المفاضلة بين روسيا وأميركا، فبات التأييد رهنا بمن يوقف معاناتهم.

وبعد تأكد فشل المقاربة الحالية، لا تملك السلطات العسكرية في باماكو أوراقا تجعلها تتمسك بخياراتها السياسية وتحالفاتها البديلة، ما يفتح الباب للمجتمع الدولي للتدخل بحجة القضاء على الإرهاب وإنقاذ كيان الدولة.

أضحت السلطات الانتقالية مجبرة على استعادة علاقاتها الدولية وضبطها على المستوى الإقليمي، والوفاء بوعودها بشأن نقل السلطة إلى حكومة مدنية.

ويتطلب تطبيع العلاقات بين مالي والمجتمع الدولي وقف التعاون مع شركة فاغنر ووضع خارطة طريق لعودة الحكم الدستوري كبادرة تثبت حسن النية، وهي بداية في مسار تصحيحي يتفادى زحف جماعات التمرد التكفيري نحو مناطق جديدة، بما فيها محيط العاصمة باماكو.

ويعني ترك الأوضاع لتسير وفقا للمعادلات العشوائية القائمة أن في غضون فترة قليلة لن يكون الحكام العسكريون في مراكزهم الحالية، حيث تنذر المعطيات بولوج البلاد مرحلة غير مسبوقة من الفوضى والتحلل، تفضي إلى تنامي المطالب الانفصالية شمالا وتهديد وحدة وكيان الدولة.

وكما استفادت روسيا في السابق من فشل فرنسا وتنامي المشاعر العدائية حيالها في مالي، تسعى الولايات المتحدة للاستفادة من الفشل الروسي متعلمة الدرس من التجارب الماضية، ولن تكرر أخطاء باريس وموسكو.

كي ينجح التدخل الغربي الذي يلوح في الأفق، والذي استدعى زيارة لافروف الأخيرة لباماكو، ينبغي عدم النظر إلى مالي ومنطقة الساحل على أنها زاخرة بالثروات الوفيرة من المعادن والنفط والغاز فقط، بل كموقع إستراتيجي متميز أيضا.

يكرر الذهاب بتلك الحمولات النفعية مأزق كل من فرنسا وروسيا والولايات المتحدة نفسها في أفغانستان، حيث تطغى رغبة تحقيق المصالح الأحادية ولو بصبغة الشرعية على حكومات فاسدة وفاشلة على تحقيق الإصلاح، وهو الوحيد الضامن لسد المجال أمام الجماعات الجهادية.

من المنطقي أن تقدم المطالب المشروعة لمختلف العرقيات بشكل متوازن على التطبيق الحرفي للقيم الغربية، لكن ديمقراطية الانتخابات لن تحل المعضلة عبر فوز المجموعة العرقية الأكثر عددا.

تضميد الجروح وتلبية المطالب السياسية المشروعة للجميع وتدشين حوكمة رشيدة تناسب البيئة والثقافة المالية وتراعي التنوع العرقي، كفيلة بخلق حاضنة شعبية داعمة للتدخل الخارجي أيا كانت جهته، ما يحقق الكثير من الأهداف بإنفاق منخفض وبتدخل عسكري أقل كلفة.

لا ينجح تدخل عسكري خارجي ولا حتى من القوات المحلية دون حاضنة ودعم شعبيين، ومن دون ذلك تظل مجموعات جهادية صغيرة وسريعة الحركة قادرة على المناورة واستنزاف قدرات قوى كبيرة لها موارد عسكرية هائلة.

تتطلب العودة الغربية المرتقبة القيام بإجراءات منسقة ومشتركة مع الشركاء الدوليين لنقل القوات والتنسيق مع الدول الإقليمية المستعدة لمواصلة التعاون، ويمكن إشراك حكومات أخرى لتخفيف التهديدات والاستفادة من التجارب التي نجحت في إحراز انتصار على الجهاديين.

العرب