“النازحون” شخصية العام في العراق

“النازحون” شخصية العام في العراق

350

أنطونيو غوتيريس المسؤول في الأمم المتحدة عن اثنين وستين مليوناً من لاجئي العالم، ليس في وارد إيجاد الحل لمشكلة صغيرة، صغيرة بالنسبة له، أي مشكلة النازحين العراقيين الذين يقفون على بوابات المدن، وعلى عطفات الجسور، يكابدون مرارة رفض دخولهم إلا بشروط. لم يعد غوتيريس نفسه يملك غير الكلمات، بعد أن نفدت الموارد، وتعثرت الحلول، وكبرت المأساة، نسمع صيحته “نحن أشد ما نحتاج اليوم إلى التسامح، والشفقة، والتضامن مع هؤلاء الناس الذين فقدوا كل شيء”، لكن العراقيين الذين لم يعرفوا تجربة الهجرة واللجوء، حتى الماضي القريب، مازالوا يعتقدون أن في وسع الأمم المتحدة أن تفعل من أجلهم شيئاً، ما داموا يمتلكون حصة في أعداد البشر الذين يتحدث غوتيريس باسمهم، ويدعو إلى الشفقة عليهم، ويطلب من العالم التضامن معهم!
لماذا ينتظر العراقيون غوتيريس الذي يأتي ولا يأتي لينصفهم، وقد افتقدوا الإنصاف لدى حكامهم، ولم يحصلوا منهم على قدر من الاهتمام، أو الرعاية التي تمنحها لهم حقوق المواطنة التي كفلها لهم الدستور كما قيل لهم، وبعدما أجبرتهم المليشيات السوداء على ترك منازلهم، ولم يجدوا أماكن صالحة تؤويهم، وتضمن حياتهم، وبعضهم مازال في العراء، يختبر حرّ الصيف وبرد الشتاء. اختصر أحدهم مأساته بتغريدة على “تويتر” “إنه زمان شرّير، لم نختبر مثله من قبل، وشر ما فيه أننا لم نعد نملك وطناً”، وطنهم لم يعد لهم.
يحاول رئيس لجنة الهجرة والمهجرين الحكومية، رعد الدهكلي، أن يبرئ ساحته، يفيدنا بأن عدد المسجلين رسمياً من هؤلاء النازحين أكثر من ثلاثة ملايين ونصف، تضيف المنظمات الإنسانية لهم نصف مليون آخر، ويعترف بأنهم يعيشون “وسط أوضاع إنسانية صعبة، جرّاء انعدام الخدمات، وعدم توفير المستلزمات الأساسية لهم”. ولا يقول الدهلكي شيئاً أكثر من ذلك، لكأنه يريد أن يبلغنا أن على هؤلاء النازحين أن يقبلوا بالأمر الواقع، أو أن ينتحروا إذا شاءوا!
تحيلنا الأمم المتحدة، هي الأخرى، إلى مفارقة فظة: “معظم هؤلاء هجروا من محافظات الأنبار ونينوى وصلاح الدين”، أي أنهم من مكون طائفي معين، وقعوا ضحية ممارساتٍ، تنكر حق الآخر في الحياة والعيش بكرامة.
لم يكن الأمر، إذن، ناتجاً عفوياً لما جرى ويجري في البلد من صراعات وحروب وتوترات
“الخطر يكمن بأن يتحول هذا النزوح المتدفق إلى تغيير ديموغرافي في الخريطة العراقية الذي تعمل على إحداثه جهات معروفة”
طائفية وحسب. إنه، كما شخصه تقرير لمعهد بروكنغز “هدف استراتيجي للصراع الطائفي الماثل، ووسيلة لتحقيق سيطرة ميدانية، ولتكريس سلطة سياسية”، والخطر الذي يحذر المعهد من حدوثه هو في أن يتحول هذا النزوح المتدفق إلى تغيير ديموغرافي في الخريطة العراقية الذي تعمل على إحداثه جهات معروفة، يعزّز هذه الرؤية ما سمعناه وقرأناه عن توطين أعداد كبيرة من الإيرانيين، ومنحهم الجنسية العراقية في السنوات العشر الأخيرة، جديد ذلك ما تردّد عن منح إقامة دائمة لآلاف الإيرانيين الذين اقتحموا حدود العراق بدون سمات دخول، أخيراً، بحجة زيارة المراقد المقدسة، ولم يعودوا إلى بلادهم، بعد انتهاء الزيارة.
نعود الى تقرير بروكنغز الذي يوضح أنه، مع تمتع أولئك النازحين نظرياً، بحق التنقل داخل البلاد، بصفتهم مواطنين عراقيين، فإن الحال العملي يبدو عكس ذلك، إذ منعت محافظات معينة دخول أبناء محافظات أخرى إليها، واستندت تلك الإجراءات إلى الهوية الطائفية، مشترطة وجود رابطة قرابة أو عمل، أو الحصول على كفيل ضامن.
هل تتذكرون رواية “الجذور” لأليكس هيلي، وكيف هاجر “العبيد” رغماً عنهم، بعد أن اصطيدوا كما تصطاد الحيوانات، اقتلعوا من جذورهم؟ حدث الأسبوع الماضي مثل هذا لأكثر من ألف من النازحين من الأنبار الذين استطاعوا الخروج من المناطق الخاضعة لداعش، فقد أقدمت مليشيا “حزب الله العراقي” على “اصطيادهم”، واقتادتهم إلى جهة مجهولة، ولم يعرف عن مصيرهم شيء.
سمع النازحون نصيحة المفوضية السامية لشؤون اللاجئين لهم: “إذا أصبحتم لاجئين اليوم، فإن فرص عودتكم إلى دياركم أقل مما كانت عليه في أي وقت مضى، منذ أكثر من ثلاثين عاما”، وهم مازالوا عالقين على بوابات المدن وعطفات الجسور، وقد عانوا طوال العام، والعام الذي قبله، وربما الذي بعده أيضاً، من قسوة الحياة، ومرارة العيش، وظلم الأقربين، لكنهم ظلوا يتشبثون بالأمل. وحدهم هؤلاء يستحقون، وبجدارة، أن يكونوا “شخصية” العام 2015، وربما “شخصية” أعوام أخرى مقبلة.

عبد اللطيف السعدون
العربي الجديد