بعد توتر علاقاته الأفريقية ورفضه أيّ دور لمجموعة إيغاد في الوساطة، يلوّح قائد الجيش السوداني عبدالفتاح البرهان بالالتجاء إلى إيران، وكذلك إلى الجزائر التي زارها وسمع منها وعودا وليس من المؤمل أن يحصل على شيء واضح.
يسلك قائد الجيش السوداني الفريق أول عبدالفتاح البرهان طرقا عديدة للخروج من المأزق الذي يواجهه بعد تقدم قوات الدعم السريع في الكثير من المحاور العسكرية، وانسداد أفق المبادرة المطروحة من قبل الهيئة الحكومية للتنمية الأفريقية المعروفة بـ”إيغاد” أخيرا، وقاده سعيه إلى استدعاء الجزائر للمشاركة في أيّ مفاوضات لوقف إطلاق النار، بعد أن كشفت معلومات أميركية أن السودان حصل على طائرات مسيّرة من إيران ما ينطوي على احتمال حدوث تغيرات جيوستراتيجية في المنطقة.
ويعلم البرهان أن الجزائر لديها استعداد معلن للمشاركة في حل بعض الأزمات الإقليمية بطريقتها التي تحرص على الدعاية السياسية أكثر من الوصول إلى مضمون حقيقي للتسوية في الأزمة المهتمة بها، وهو يريد الاستفادة من هذا البعد لتوصيل رسائل بأنه لا يرفض وقف إطلاق النار لكن يرفض سياسات الدول أو الهيئة التي ترعى محادثات الوصول إليه، ولن يعدم الحلفاء والأصدقاء إذا تخلى عنه ممّن وثق بهم سابقا.
كما أن الكشف عن علاقة عسكرية قديمة بين الجيش وطهران في هذا التوقيت يزعج قوى دولية وإقليمية من استعادة إيران لوجودها في هذا البلد، ويؤكد أن الحرب الجارية فيه يمكن أن تتداخل أوراقها، فأيّ تعاون بين الجانبين يصب في صالح الجيش من زاويتي ضبط موازين القوى العسكرية التي تميل الآن لصالح الدعم السريع، والإيحاء بأن إيران تقترب من منتصف طريق البحر الأحمر حيث يقع السودان، ولن يقتصر تأثيرها على جماعة الحوثي اليمينة في جنوبه.
ودفع ضيق الخيارات أمام قائد الجيش واتهامه بتعطيل مسار وقف إطلاق النار استجابة لمطالب التيار الإسلامي وتعثره ميدانيا، إلى لفت الأنظار بعيدا عن ذلك بالذهاب إلى الجزائر، والتلميح بإمكانية توظيف التعاون العسكري مع إيران، فاهتمام الأولى بالأزمة لن يأتي على مزاج قوى إقليمية مثل مصر والإمارات.
فقد يستنفر الأولى (مصر) للانخراط بشكل أكبر في الأزمة وتأكيدها عمليا وقوفها إلى جانب الجيوش النظامية، ويوفر منغصا للثانية (الإمارات) التي طالتها اتهامات سودانية بمساندة الدعم السريع على حساب الجيش، وقد يخلق صداما سياسيا وإعلاميا مع الجزائر، والتي لها مماحكات سابقة مع الإمارات، وتجربة غير ناجحة مع القاهرة في تسوية أزمة سد النهضة الإثيوبي منذ نحو عامين.
ولم يعلم الجنرال البرهان أن أيّ حضور عسكري لإيران في بلاده بعد عودة العلاقات الدبلوماسية والتفاهم حول فتح سفارتي البلدين قريبا لن يكون مفيدا في هذه الأجواء، فاعتقاده أن تطبيع أو مرونة بعض الدول العربية والغربية مع طهران لا يعني القبول بوضع قدميها أو إحداهما في السودان، وتحديدا على شواطئ البحر الأحمر، ويزج بنفسه في خضم عواصف لن يتحمل السودان المريض بالحرب الدائرة في ربوعه منذ منتصف أبريل الماضي نتائجها، إذ أخذ الصدام الأميركي – الإيراني معالم أكثر تصعيدا مع قيام واشنطن بقصف أهداف تابعة لطهران في اليمن والعراق وسوريا.
وربما يتحصل قائد الجيش على مكاسب معنوية وسياسية من وراء لجوئه إلى إيران واستدعاء الجزائر تؤكد أنه ليس منبوذا وأن هناك دولا مستعدة للتعاون معه لإحراج أخرى، غير أن هذا الطريق يمكن أن يسبب له متاعب، من أبرزها ابتعاد بعض الدول الإقليمية التي لديها خصومة أو جفاء أو تحفظات مع الجزائر عن مساعدته أو المشاركة في جهود التسوية السياسية لاحقا، والانتباه إلى خطورة ما يمكن أن يقدم عليه من تطوير في علاقات بلاده مع إيران في هذه الظروف القاتمة، وفي المجمل تحمل إشارة غير ودية للبعض، وقد تؤدي إلى المزيد من الاستنفار ضد تحركاته.
علاوة على أن هذا التوجه يمنح قائد الدعم السريع الفريق أول محمد حمدان دقلو (حميدتي) فرصة للمزيد من التمدد السياسي على المستوى الإقليمي، ويحصل على شرعية أكبر في معركته الدائرة على الصعيد الخارجي في مواجهة البرهان، والتي بدأت تسير بالتوازي مع المعارك العسكرية في السودان وكأن هناك علاقة طردية بينهما، فالملاحظ أن التفوق في القتال يؤدي إلى توسيع الانفتاح السياسي عليه.
ويمكن أن تقود رؤية البرهان للتعامل مع الأزمة من خلال إنكار الطرف الآخر (الدعم السريع) وتشتيت الجهود الرامية لتطويقها إلى هبوط أسرع في مصداقيته وعدم الثقة بتقديراته بشأن الدخول في محادثات ترعاها أيّ جهة معنية بالأزمة، وربما يكون المشروع الذي تم الحديث عنه قبل أيام في الكونجرس الأميركي لسحب الاعتراف بالسودان في المنظمات الدولية إشارة لما تفضي إليه تصوراته الحافلة بالتناقضات.
◙ مغازلة الجزائر تحمل معنى الغرض منه التنصل من وقف إطلاق النار في المدى المنظور إلى حين تعديل الدفة العسكرية
ففي الوقت الذي وضعت فيه الحكومة السودانية قوات الدعم السريع على قائمتها “للإرهاب” كانت وسائل إعلام عديدة تتحدث عن لقاءات سرية عقدت بين ممثل للجيش هو شمس الدين كباشي وآخر للدعم السريع هو عبدالرحيم دقلو في البحرين حول وقف إطلاق النار، وقد تفهم هذه الازدواجية على أنها مناورة لكن أيضا تشكك في الخطاب المعلن من الجيش، ولا تجعل البعض يثقون بما يحمله من سلام.
ويخلق الجنرال البرهان، وهو في رحلة البحث عن تفكيك الأزمة بالشكل الذي يساعده على الخروج من براثن أزمة تزداد تصعيدا، مطبات أشد تعقيدا، حيث يفهم لجوؤه لمشاركة جزائرية ضمنية على أنه مناورة، في خضم وجود منبرين متكاملين هما منبر جدة وتشرف عليه وساطة سعودية – أميركية، وإيغاد وتشرف عليه دولها.
وتحمل مغازلة الجزائر عقب زيارته إليها معنى الغرض منه التنصل من وقف إطلاق النار في المدى المنظور إلى حين تعديل الدفة العسكرية، وهو هدف واضح في خطاب عدد من قادة الجيش، يشي بأن النصر آت لا محالة بالتخلص من الدعم السريع.
ولم تعد هذه النوعية من التوجهات تنطلي على من يتابعون الأزمة بعد التيقن من وجود عناصر إسلامية تعمل منذ اندلاع الحرب على تغذيتها واستمرارها، ما يجعل تحركات البرهان نحو إيران والجزائر مربوطة بهذه العناصر التي لها علاقة تاريخية مع الأولى، وتسعى لاستثمار الجناح الإسلامي في الثانية للضغط على النظام الحاكم لإنقاذ الجيش من الورطة الراهنة بالدعم السياسي أو خلط مبادرات التسوية.
وفي الحالتين قد يحصل الجيش على وقت لإعادة تموضعه بشكل يمنحه مساحة للحركة، وهو غرض كامن في غالبية جولات البرهان، حيث يريد تأكيد أنه رئيس مجلس السيادة وله حق بمفرده في مخاطبة العالم، ويجب تقويض الاعتراف بغريمه حميدتي وعدم مساواته به في الحرب والسلام، وهي مشكلة تزداد صعوبة بعد نجاح الأخير في إقناع الكثير من القوى بأنه على استعداد لوقف الحرب وهو في موقف قوي عسكريا.
العرب