الأمن المائي للعراق التحديات والنتائج

الأمن المائي للعراق التحديات والنتائج

تتحد المنطلقات الذاتية والأسس الميدانية لمفهوم الأمن الداخلي وتتخذ مهام عديدة وتتسع حيث إرادة الدولة وصلابة موقفها وتتمدد حيث حماية أمن واستقرار المواطن وتسود أدواتها عندما ترتقي إلى المفاهيم العليا وتسمو إلى ذرى الحياة السعيدة وتصل إلى مرافئ الحرية والعدالة والمساواة وسيادة القانون واحترام وتنفيذ قرارات الدولة وحماية أنظمتها وادامة العمل بوتائر متصاعدة في جميع مجالات الحياة ودفع عملية النماء والإنتاج الوطني وتعزيز البنية الاقتصادية وحماية المنتوج المحلي ليكون عاملا مساعداً ومهماً في بناء المنظومة السياسية وتلازمها مع المنظومة الإجتماعية وإلاقتصادية وصولاً إلى مجتمع متطور وشعب واع وإرادة حقيقة وقرار مستقل وسيادة وطنية تحقق الإستقلال الحقيقي وتعزز إرادة الشعب وتحمي حقوقه وتدافع عن وجوده وتساهم في إعلاء مكانته بين الأمم والدول واستثمار ثرواته الطبيعية وبناء علاقات دولية وإقليمية جادة أساسها احترام سيادة البلاد وفق الأنظمة والقوانين والأعراف الدولية وما تضمنه القانون الدولي وطبيعة العلاقات السياسية بين البلدان وفق منظومة عالمية تسودها المفاهيم المتبادلة والمصالح المشتركة القائمة على اساس العدالة الدولية ومراعاة حقوق الدول وتحقيق المنفعة الدائمة من توسيع دائرة العلاقات الدولية بما يحفظ أمن وسلامة البلدان وتعزيز البنية الاجتماعية والحفاظ على ديمومة الحياة وسيادة الأمن والنظام وتحقيق المسارات الحقيقية الميدانية في عقد المعاهدات والاتفاقيات الدولية ذات الأبعاد الإستراتيجية التي تحدد إطار العلاقات بين الدول وفق المفاهيم المتعارف عليها وما تنص عليه مبادئ وأهداف منظمة الأمم المتحدة وما أقرته المنظمات العالمية وما دأبت عليه الدول في تحديد المسارات الحقيقية لبناء أسس رصينة من العلاقات المشتركة والأهداف الحيوية والمساعي الحميدة لتعزيز قدرة البلدان على الاحتكام للقوانين الدولية وحماية مصالحها بما يحقق لها المعاني الكبيرة لمفهوم الاستقلال الوطني والدفاع عن حقوق المواطنين وتعزيز الإرادة الشعبية وتمتين العلاقات الدولية وحسن الجوار مع الدول المحيطة بالبلدان وفق الاتفاقيات المرعية والمصالح المتبادلة والدفاع عن وحدة وسلامة البلاد وتأمين أمنها الوطني والقومي.
امام هذه المفاهيم والأعراف الدولية في التعاملات السياسية بين الأمم والبلدان نقف أمام أزمة كبيرة تتعلق بمفهوم الأمن المائي في العراق بعد الاحتلال الأمريكي للبلاد في التاسع من نيسان عام 2003 حيث سادت كثير من المفاهيم التي ابتعدت عن حماية أمن وسلامة العراق وساهمت في ضياع حقوق الشعب والإضرار بمصالحه الذاتية والعامة بما انعكس سلبياً على طبيعة الحياة واستمرارها وأضحت المنظومة الأمنية عرضة لتهديدات خارجية أخذت أبعادها ليس بصورة التهديد لأمن البلاد من خلال التدخلات والتفاعلات ذات الطابع الأمني الفني فقط وإنما امتدت لتهدد سلامة المواطن وقوته اليومي وحياته المستقبلية فأصبح العراق محاصراً بالجفاف رغم ما يمتلكه من نهرين عظيمين هما دجلة والفرات والعديد من الروافد المائية المتفرعة منه و أراضي خصبة للزراعة تدر الملايين من الأطنان الخاصة بالإنتاج الزراعي وتنوع المحاصيل من الحنطة والشعير والرز وباقي الأنواع الأخرى وتحولت هذه الأراضي إلى صحراء قاحلة هجرها أهلها والمزارعين بسبب قلة المياه وانحصارها وعدم وجود بدائل للامطار وقلة المخزون المائي في السدود والبحيرات وانقطاع المناسبة المياهية التي كانت من أهم أسبابها عدم قدرة الحكومات العراقية التي تعاقبت بعد الاحتلال الأمريكي من استرداد حقوق العراق المائية وتكون إرادتها عن محاورة دول الجوار والمصب المائي (تركيا وإيران) بضرورة تأمين الحصص والحقوق المائية للعراق وفق القوانين والأنظمة الدولية ومراعاة حسن الجيرة والعلاقات المشتركة وهذا ما أدى إلى انخفاض الخزبن المائي للبلاد بنسبة 12% عن معدل الخزن العام وحسب تصريح وزارة الموارد المائية الأمر الذي أدى إلى تصنيف العراق ضمن الدول الأكثر تأثيرا بالتغيرات المناخية فقد شكل انخفاض الخزين المائي بنسبة لم يشهدها السجل التاريخي للعراق خلال العقود الماضية من السنين .
وبهذا فقد ابتعد العراق عن حقيقة المفهوم العلمي للأمن المائي الذي يعرف (بانه الكمية المتوفرة من الماء الجيد والكافي للصحة والإنتاج ومتطلبات الحياة ومقرون بالمستوى الملائم من الخطر المتعلق بالماء ، ولا يمكن تحقيق التنمية المستدامة بدون أمن مائي ويتكامل العالم المائي مائيا مع القلق على قيمة الماء الجوهرية وبما يتعلق لأهميته لبقاء الإنسان وصحته ) .
ووفق هذا المفهوم فقد عانى العراق وتأثر كثيرا بعدم توصله إلى نتائج إيجابية وميدانية تساهم في الحد من السلبيات التي أدت إلى عدم قيام دول المصب المائي بإعطاء العراق حقوقه المائية واستغلال الأوضاع المأساوية التي يمر بها ، فقد انخفض المستوى العام في القطاع الزراعي بنسبة 70% وحرمان مدن عراقية من الزراعة في العام الماضي ومنها محافظة ديالى بسبب شحة المياه حيث بلغت كمية المياه الداخلة إلى نهر الفرات (198) متر مكعب في الثانية الواحدة فيما كانت سابقا (290) متر مكعب في الثانية الواحدة واما نهر دجلة فقد بلغت كمية المياه الداخلة (200)متر مكعب في الثانية بينما الخارج من خزبن السدود (500)متر مكعب وحسب ما أكدته وزارة الموارد المائية بمطالبة العراق من تركيا بإطلاق حاجة العراق من المياه ، بعد أن تقلصت المساحات المزروعة إلى 75% وان استخدام خزين البحيرات في معالجة الأزمات الزراعية بعد أنخفاص حاجة العراق من المياه من 50 مليار متر مكعب سنوياً إلى 13 مليار متر مكعب وهذا شكل خطراً كبيراً على حياة المواطنين وأزمة اقتصادية كبيرة تمنع استمرار الزراعة واستصلاح الأراضي المنتوج المحلي وتلبية احتياجات المواطنين من المحاصيل الزراعية كما وان الإجراءات التي أقرها النظام الإيراني قد أدت إلى اختفاء مساحات مائية واسعة جداً من هور الحويزة الواقع على الحدود العراقية الإيرانية واصابت هور الجبايش بذات الحالة وتحولت إلى أراضي جافة بسبب انخفاض مستوى المياه المتدفقة من الأنهار وحصل مع هور ام النعاج الذي تحول إلى بركة موحلة وخطوط جافة لجداول مياه كانت تنحدر عبر مستنقعات الانوار التي كانت خصبة وسبق وان أدرجت على لائحة التراث العالمي من قبل منظمة الأمم المتحدة للتربية والثقافة والعلوم عام 2016.
وما بين عامي (2020_2022) انخفض مستوى المياه والرطوبة بنسبة 41% من مساحة الأهوار جنوب العراق وجفت مسطحات مائية بنسبة 46% من مساحة الاهوار، وفي تقرير لمنظمة الأغذية والزراعة في الأمم المتحدة نشر في شهر تموز من عام 2022 جاء فيه (ان الأهوار واحدة من أفقر المناطق في العراق واحدى أكثر المناطق تضررا من تغير المناخ ونقص المياه وأن هناك آثار كارثية تهدد حياة أكثر من ستة
آلاف أسرة ريفية إذ أنها فقدت جواميسها التي تعد مصدر رزقهم الوحيد )،وأصبحت المنطقة متأثرة بالجفاف العام الذي آثر على التنوع البيولوجي بشكل كامل فلا وجود للأسماك والحيوانات والطيور وهناك أنواع من الحيوانات مهددة بالانقراض.
ويحمل المدير العام للمركز الوطني لإدارة الموارد المائية حاتم حميد النظام الإيراني مسؤولية الأزمة بقوله ( ان التغذية الرئيسية لهور الحويزة هي من الجانب الإيراني لكن النهر مقطوع تماما منذ أكثر من سنة وهذا سبب تقنين في المياه من جانبنا سعيا إلى ضرورة تأمين مياه الشرب ) ، وكما وان إيران قطعت معظم الأنهار المتدفقة من أراضيها نحو العراق الأمر الذي تسبب في جفاف شديد ويقدر عدد الأنهار ب(40)نهراً وهي أنهار دولية عابرة الحدود ويعتبر التصرف الإيراني مخالف للأعراف والأنظمة والقوانين الدولية المتعلقة بحقوق البلدان المائية وما يترتب على دول المصب والدول التي تمر بها هذه الأنهار والروافد والذي أدى إلى زيادة اللسان الملحي ونسب الثلوث في محافظة البصرة لعدم صلاحية شط العرب للاستهلاك البشري والحيواني بالتزامن مع زيادة الروائح وحجم الجراثيم، كما وان هناك ( 42) وادياً مشتركاً بين العراق وإيران وفي السنوات الأخيرة أنشأ الجانب الإيراني “مشروع الإيمان الإيراني”، وهو مشروع يحجز (10.2 مليار م3) سنوياً عبر أكثر من 40 سداً وناظماً، وقد تكامل هذا المشروع الآن، وهذا سيؤدي إلى مشكلات أخرى تتمثل في إنحسار الزراعة ونفوق الحيوانات والأشجار والثروة السمكية نتيجة قلة المياه وهذا من أسباب منع أيران للمياه المتجهة للأراضي العراقية وحجزها وعليها إرجاع مسار نهر الكارون إلى وضعه الطبيعي ليغذي شط العرب إلا أنها لم تستجب لذلك مما أدى إلى تراجع في الزراعة ونزوح الكثير من سكان الأرياف نحو مركز المدن واتساع ظاهرة الفقر والبطالة وهناك سبب جوهري سياسي يتعلق بمديات التمدد والنفوذ الإيراني في العراق وبما يمتلكه من وكلاء وأدوات تهيمن على معظم المشهد العام في العراق.
وأدى الجفاف إلى انخفاض مستوى المياه في الخزانات المائية والبحيرات، فبحيرة حمرين التي تعد من أهم البحيرات إلى يعتمد عليها سكان محافظة ديالى والتي يبلغ مخزونها(ملياري) متر مكعب وتعد المصدر المهم لري المزروعات وتأمين المياه الصالح للشرب والتي تتغذى من روافد عديدة غالبيتها من إيران باتت معرضة للجفاف بعد أن قطعت إيران تلك الروافد وغيرت مسارها إلى داخل الأراضي الإيرانية حيث تبلغ نسبة المياه التي تاتي للبحيرة عبر الروافد 80% ومن العيون الينابيع 20%.
تبقى الإرادة الوطنية الحقيقية هي التي تحدد مسارات حماية المواطن وادامة الحياة في البلاد وحماية أمنها القومي وتعزيز حاجتها المائية بقدرتها على الحوار المتكافئ والمستقل مع الدول المجاورة(تركيا وإيران وسوريا) والالتزام بمصالح أبناء الشعب العراقي وتعزيز الجانب الوطني واعتبار ملف المياه عاملا رئيسيا يحدد مسار وعمل الحكومات العراقية واعطائه الأولوية القصوى باللجوء إلى جميع الوسائل والأساليب للضغط على هذه الدول بعيدا عن أي مجاملات او علاقات تهدد حياة ومستقبل الشعب العراقي ومصالحه الوطنية وإيجاد الحلول الجذرية فيما يتعلق بالأمن المائي وتوفير المياه الصالحة للشرب والحماية الميدانية للاهوار العراقية .

وحدة الدراسات العراقية

مركز الروابط للبحوث والدراسات الاستراتبجة