يبدو الإنسان العربي في الوقت الراهن كمن استفاق على كابوس ثقيل. فأحلام الربيع العربي ووعوده السحرية تكشّفت عن «فوضى تسلطية»، بحيث بات المطروح: إما الخروج من التاريخ أو الدخول إليه.
لكن الدخول في التاريخ ومواكبة إيقاع العصر دونهما مقدمات أساسية، لن تفلح أية حركة تغييرية لا تتأسس عليها ولا تستنير بهديها. فلكي يتصالح العرب مع العصر، يجب إنهاء التبعية الاقتصادية والغذائية، إذ أظهرت الدراسات الإحصائية أن العرب يعتمدون في غذائهم في صورة أساسية على الاستيراد، وفي شكل يتفاقم تدريجياً، حيث ارتفعت نسبة الأغذية المستوردة من 29.9 في المئة عام 1971 إلى 49.5 عام 1990، لتبلغ نهاية العقد الأول من القرن الراهن 59.4 بليون دولار. ولكي يكون للتغيير مستقبل في العالم العربي يجب القضاء أولاً على نسبة الأمية التي لا تزال، وفق تقرير التنمية البشرية لعام 2014، في حدود الثلاثين في المئة في المغرب واليمن والسودان، وحتى في مصر، أعرق البلدان العربية نهضوياً.
ولكي يكون للتغيير مستقبل عند العرب يجب الحد من اللا مساواة الطبقية الحادة التي لا تزال سمة مميزة للمجتمعات العربية، فالطبقة الوسطى تتلاشى وأعداد الفقراء آخذة في الارتفاع، خصوصاً في الأرياف، حتى بات هناك 220 مليون فقير في الأقطار المتوسطة والمنخفضة الدخل، إضافة إلى 14.4 في المئة عاطلين عن العمل، وتتركز البطالة بين الشباب، ومنهم 40 في المئة من خريجي الجامعات والثانويات.
ولكي يكون للعرب مستقبل، لا بد من إعادة النظر في علاقتهم بتاريخهم وتراثهم وبـ «الآخر»، فقد بات حضور التراث أو الآخر في وعينا إلغاءً لحاضرنا ولتطلعنا نحو المستقبل، بحيث أصبح مستقبلنا في ماضينا، أو في ما في غيرنا وحاضره. لكن مهمة كهذه تبقى مستحيلة إذا لم تنزع الأغلال التاريخية التي قيدت العقل العربي، بحيث يصبح ممكناً الانتقال بالعلاقات الاجتماعية من علاقات قبلية إلى علاقات مدنية تحطم الأطر القبلية والطائفية والعشائرية، ما ينهي الإشكال الحاصل بين العلمانية والأصولية، ويدرج العرب في ثورة الحداثة.
كما أن تعاملنا مع الحداثة سبب من أسباب إخفاق حركة التغيير العربية. فلقد تلقفنا منجزات الحداثة دون النظام الذي أنتجها، عجزنا عن تحويل التكنولوجيا إلى نظام يسري في مفاصل مجتمعاتنا المترهلة والمتخلفة ليحرك عصب الإبداع في داخلها، فيكون لنا دور في حركة العلم والتقدم، نشارك في إنتاج الحداثة وفي حضارة العصر العتيدة، ولا نتلقى فقد ما ينتجه الآخرون من دون أن نساهم في صنعه.
ولن يكون للتغيير مستقبل عند العرب إذا لم يصبح حراكهم السياسي جزءاً من حركة العصر الديموقراطية. فلقد قيض لعالمنا المعاصر أن يشهد سقوط الديكتاتوريات، والاعتراف بالإنسان كقيمة بذاته. لكن الإنسان العربي ما برح يدور في دائرة الاستبداد، لا تزال حقوقه مغيبة في ظل أنظمة استبدادية تمعن في إذلال شعوبها ومصادرة حرياتها والقبض على مجتمعاتها المدنية.
ولن يكون للتغيير مستقبل والمرأة العربية تقبع على هامش الحراك السياسي والاجتماعي، بينما تلاحقها في بعض الأقطار العربية قوى التعصب والردة والانغلاق، وبينما تشير تقارير التنمية الإنسانية العربية إلى أن المنطقة العربية تبدي من أعلى أمية النساء في العالم، وإلى أن مشاركتهن في الحياة الاقتصادية والحياة السياسية تبقى الأضأل، حتى قياساً إلى الدول النامية. وتعاني المرأة العربية من التمييز في الإرث والعمل، وتتعرض للعنف بأشكال شتى، تصل إلى الضرب والايذاء الجسدي والقتل. فكيف يكون للعرب مكان في هذا العصر في ظل هذا الخلل الجسيم في بنية مجتمعاتهم؟
ولن يكون للتغيير مستقبل إن لم تجابه إشكاليات الانفجار الديموغرافي وتريف المدن والفساد الأخلاقي، حيث تحتل البلدان العربية مواقع متقدمة في تقارير منظمة الشفافية الدولية عن حالة الفساد في العالم.
إن تجنب التفكير في كل هذه الإشكاليات المتمادية والمربكة وعدم التصدي لها بجدية، هما مصدر الخلل في توجه العرب نحو المستقبل، ومصدر إحباط الثورات العربية وانحدارها إلى مآلات بائسة. فلم يكن مفاجئاً اندلاع النزاع الطائفي والمذهبي والتعامل الإقصائي مع الآخر في مجتمعات الانتفاضات، كما لم يكن مفاجئاً كذلك إحساس شرائح واسعة من هذه المجتمعات بالغبن، ومنها الأقليات الطائفية والمذهبية والنساء والمثقفون، كما لم يكن خارج التوقع ضبابية الرؤية المستقبلية لحراكات التغيير ومآلاتها المربكة.
من هنا إن مستقبل التغيير في عالمنا العربي رهن بالتصدي لكل تلك الإشكاليات السياسية والاجتماعية والاقتصادية والايديولوجية، والانطلاق في ذلك من رؤية ليبرالية تقدم حقوق الإنسان على أساس المساواة المدنية والوطنية، وتؤكد الفصل بين السياسي والديني وانتظام الدولة في السياق المؤسسي الحداثي. تواجه الفساد الأخلاقي وتعيد النظر في واقع المرأة العربية وتخلفها التاريخي، لتذهب في اتجاه تنمية شاملة تنزع فتيل الفتنة والحرب الأهلية.
من هذه المقدمات الأساسية في رأينا يبدأ التغيير الجذري في المجتمعات العربية. إننا الآن أمام تحديات تاريخية سيتقرر على أساسها مستقبلنا كأمة وكحضارة.
كرم حلو
صحيفة الحياة اللندنية