بات واضحاً أن حرب الإبادة في غزة، هي حرب بلا نهاية، بدأت كي تستمر، بل ربما لم تبدأ بعد بكامل أطرافها أو طاقتها، رغم كثرة المبادرات، التصريحات، الاجتماعات، الأسفار، إلا أن كل ذلك منذ اليوم الأول كان تحصيل حاصل، استهلاكا محليا هنا ودوليا هناك، الفجوة واسعة بين الموقفين الإسرائيلي الأمريكي من ناحية، والفلسطيني من ناحية أخرى، الموقف الأول يناور ويتلاعب بالألفاظ التي تحمل في النهاية مضموناً واحداً، هو الإفراج عن الأسرى، ثم معاودة العدوان، الموقف الثاني يُصر على وقف العدوان والانسحاب من كامل القطاع، النتيجة واضحة على أرض الواقع.
الأطراف الثلاثة الفاعلة في النزاع، المقاومة الفلسطينية وإسرائيل والولايات المتحدة، رغم تقاطعاتها العلنية على كل الأصعدة، إلا أنها تتوحد في الموقف من استمرار الحرب، ذلك أن أي طرف لم يحقق أهدافه كما يلي:
الولايات المتحدة يتم طردها من القارة الافريقية لحساب الوجود الروسي الصيني التركي الإيراني، تتم هزيمتها في أوكرانيا وهزيمة سلاحها بكل أنواعه، يتم تحقيرها أمام العالم على أيدي ميليشيات صغيرة باليمن، ثم تأتي هزيمة إسرائيل أمام حركة «حماس» لتضيف لسلسلة الهزائم، وهو ما لم تقبل به واشنطن حتى الآن، أيضاً تأتي هزيمة الجيش الإسرائيلي على أيدي مجموعة من المسلحين بأسلحة خفيفة، ليعلق التاريخ العسكري الصهيوني في الوحل، وهو ما لم تقبل به تل أبيب حتى الآن أيضاً، أما عن المقاومة في قطاع غزة، فإن العقيدة تنطلق من، النصر أو الشهادة، ما يكفي للتدليل على أن موعد وقف القتال لم يحن بعد. ويمكن القول إن تحويل الاهتمام الأمريكي والدعم العسكري من الحرب الروسية في أوكرانيا، إلى حرب الإبادة الإسرائيلية في قطاع غزة، أكسب الروس نجاحات كبيرة على الأرض في مختلف الأقاليم هناك، خلال الشهور الثمانية الماضية، كما تراجع الاهتمام الأمريكي أيضاً بالصراع مع الصين على صعيد الأزمة مع تايوان، حيث كثفت بكين مناوراتها العسكرية البحرية والجوية، ليس ذلك فقط، بل تراجع الاهتمام الأمريكي بالأزمة مع كوريا الشمالية التي كثفت في الآونة الأخيرة من عمليات الاستفزاز لجارتها الجنوبية، وعلى هامش حرب غزة أيضاً دأبت واشنطن على خفض حدة التوتر مع إيران، رغم الموقف الإيراني الداعم علانية للمقاومة الفلسطينية، إلا أن كل ذلك لم يغير شيئاً في السياسة الأمريكية تجاه الاهتمام بالحرب على غزة، والدعم اللامحدود لإسرائيل.
علمتنا حركة التاريخ، أن حركات التحرر الوطني تكسب دائماً، كما علمتنا عقيدتنا أن الأخذ بالأسباب يكفل الانتصار مهما طال الوقت، خاصة أننا أمام معركة بين الحق والباطل
بموازاة كل ذلك، تشهد معظم الولايات الأمريكية مظاهرات تندد بالعدوان الإسرائيلي على الشعب الفلسطيني، والدعم الأمريكي في هذا الشأن، ناهيك عن الاحتجاجات الطلابية في مختلف الجامعات هناك، التي خطفت الأنظار على المستوى العالمي وليس الأمريكي فقط، رغم قرب الانتخابات الرئاسية الأمريكية، وتأثير ذلك سلباً على الرئيس الأمريكي جو بايدن، كمرشح رئاسي، وحزبه الديمقراطي، إلا أن ذلك أيضاً لم يغير شيئاً في السياسة الأمريكية، التي استمرت في تقديم الدعم العسكري والمادي والسياسي للكيان الصهيوني، رغم ارتكابه لمجازر يومية بحق المدنيين أصبحت مثار انتقاد العالم. المثير في الأمر هو، أن الدعم الأمريكي لآلة القتل الإسرائيلية، الذي تجاوز 240 طائرة، ونحو 50 سفينة، محملة بالأسلحة، بخلاف ما هو متداول عن 2000 من القوات الخاصة «دلتا» وبلاك ووتر، يأتي في ظل هيمنة الديمقراطيين على مقاليد صنع القرار، ولو أن الأحداث كانت في ظل هيمنة الجمهوريين، لما كان هناك مجال للدهشة، لأن العقيدة البروتستانتية المسيطرة على السلوك الجمهوري، تتيح لهم هذا النهج، الذي ينشدون من خلاله الوصول للمبتغى النهائي، وهو حرب نهاية العالم، المعروفة لديهم باسم (هرمجدون). بيد أن هيمنة الجمهوريين على الكونغرس، والمخاوف من سطوة اليهود على العملية الانتخابية، كان لهما بالغ الأثر على السلوك الديمقراطي، ممثلاً في الرئيس وفريق عمله، الذي لم يستطع الانحياز للإنسانية والأخلاق، أو حتى للشارع والطلاب والرأي العام، الأمر الذي سقطت معه كل الأقنعة والشعارات والمواثيق الأمريكية الأخلاقية، تحت أقدام أطفال ونساء غزة وشهدائها على مدار الساعة، بفعل القنابل الأمريكية، والدعم الكبير في المحافل الدولية، بل في ساحات القضاء.
على الصعيد الإسرائيلي، يعي المجتمع الصهيوني داخل إسرائيل وخارجها، أن نهاية الكيان أمر حتمي، بحكم النبوءات والحسابات وقراءة التاريخ، إلا أنهم يعاندون القدر، من خلال أسفار تلمودية زائفة، تدعوهم إلى قتل البشر وتدمير الحجر وحرق الشجر، وغيرها من ممارسات دموية مدمرة، قد تنقذهم هذه المرة من التيه والشتات، ما يفسر هذه الحالة من الهلع، واستهداف الأطفال والنساء بشكل خاص، بهدف قطع النسل، واستحالة الحياة، لتهجير أصحاب الأرض، الأمر الذي يلقى إجماعاً في الداخل الإسرائيلي، وموافقة ضمنية من الأنظمة البروتستانتية المسيحية بشكل خاص. ربما كان بيني غانتس عضو مجلس الحرب المستقيل، أكثر صراحة حينما تحدث في خطاب الاستقالة، عن أن هذه الحرب ستستمر سنوات، ما يشير إلى أن استقالته لم تكن اعتراضاً على استمرار الحرب كما هو شائع، ذلك أنه من أنصار فتح جبهة الشمال مع حزب الله على مصراعيها، وهنا يجب أن نستحضر أيضاً تصريحات الرئيس المصري عبدالفتاح السيسي، منذ بداية الحرب، وتحديداً يوم 18 أكتوبر، خلال المؤتمر الصحافي بالقاهرة مع المستشار النمساوي أولاف شولتس، حينما قال: إن هذه الحرب قد تمتد عدة سنوات، وغير ذلك من الإشارات التي تؤكد أن حوارات وقف القتال، في حاجة إلى إعادة قراءة، من حيث مدى المصداقية.
على الجانب الفلسطيني، ممثلاً في المقاومة بالطبع، تجدر الإشارة إلى أن عقيدة حركتي حماس والجهاد معاً، تنطلق من عدم الاعتراف بوجود الكيان الصهيوني على أرض فلسطين التاريخية، المعروفة بحدود 1948، أو حدود ما قبل إنشاء الكيان، من الحدود اللبنانية شمالاً، حتى الحدود المصرية جنوباً، ومن البحر المتوسط غرباً، حتى الحدود مع الأردن وسوريا شرقاً، الأمر الذي يجعل من أي حديث حول وجود أو تعايش دولتين، فلسطينية وإسرائيلية، مجرد وهم، يعيه الإسرائيليون جيداً، لذا فهم يرفضون مجرد مناقشته، بما يؤكد أنهم كانوا يتلاعبون بسلطة منظمة التحرير في اتفاقيات أوسلو عام 1994.
لا شك إذن، وفي ضوء هذه المعطيات، أن عملية طوفان الأقصى، حققت بعضاً من أهدافها حتى الآن، وفي مقدمتها وقف التمدد الإسرائيلي، الذي كان يستهدف في البداية، إزالة المسجد الأقصى في القدس المحتلة تمهيداً لذبح البقرات، تهجير مواطني الضفة الغربية إلى الداخل الأردني، تهجير مواطني غزة إلى سيناء بمصر، فتح الباب أمام عملية تطبيع واسعة مع عدد كبير من الدول العربية، فرض ما يعرف بالديانة الإبراهيمية على المقررات الدراسية بدول التطبيع، تمهيداً لاعتمادها كعقيدة إيمانية بديلة للإسلام، البدء في إنشاء قناة بن غوريون، كقناة بديلة أو موازية لقناة السويس، بالتزامن مع طريق الهند حيفا، وهو الطريق الذي يربط جبل علي بدبي، مع ميناء حيفا الإسرائيلي على البحر المتوسط، وغير ذلك كثير. ويظل الواقع العملي يفرض نفسه على قراءة الأحداث، وعلى توقعات خاتمتها في الوقت نفسه، ذلك أن الولايات المتحدة كشفت عن وجهها القبيح، المسجل تاريخياً على كل الأصعدة، بدءاً من حروب الإبادة، مروراً باستخدام السلاح النووي، وحتى المشاركة في المجازر الصهيونية الحالية، ما ينفي انحيازها إلى الجانب الإنساني في أي من الصراعات، بينما إسرائيل لم تعد تقبل مجرد وجود الشعب الفلسطيني على قيد الحياة، لذا كانت ممارسات الإبادة واضحة، دون أي اعتبار لقوانين وردود أفعال، في الوقت الذي خرج فيه الشعب الفلسطيني من القمقم ليستعيد كرامته وأرضه، لا يقبل استمرار وجود المحتل أكثر من ذلك، وقد علمتنا حركة التاريخ، أن حركات التحرر الوطني تكسب دائماً، كما علمتنا عقيدتنا أن الأخذ بالأسباب يكفل الانتصار مهما طال الوقت، خصوصاً أننا أمام معركة بين الحق والباطل، لا لبس فيها ولا ريب.