يُؤخذ على جامعة الدول العربية غيابها عن مواكبة الأحداث التي تعصف بالوطن العربي ودوله المتعددة. بالمقابل فإن أسباباً تخفيفية قد تُمنحُ للجامعة على تقصيرها في مرحلة حساسة وخطرة عصفت بالساحة العربية برُمّتها، وحصل تباين واسع بين بعض مكوناتها، وتلافياً للانقسام فضّل القيمون على العمل العربي المُشترك خفض سقف التعاون، كحل مؤقت ريثما تمرّ العاصفة، على حد تعبير أحد المساعدين للأمين العام للجامعة.
ذلك الإخفاق، وتلك التراجعات؛ كانت محل امتعاض من الأوساط الشعبية، ومن بعض النُخب ومن قادة الرأي، على اعتبار أن الانكفاء لا يجوز في وقت الشدّة، حيث الحاجة تتضاعف للدور الجامع. وقد ساهم الترهل في العمل العربي المُشترك إبان السنوات الماضية في زيادة الشرذمة والتفكّك، وبالتالي قدم الانكفاء العربي خدمة كبيرة للمتربصين شراً بالأمة العربية، وفي المُقدمة منهم «إسرائيل» وزاد من أطماع الجيران، وفاقم تدخلاتهم الوقحة في الشؤون العربية.
مجلس وزراء الخارجية العرب الذي انعقد في 24 كانون الأول/ديسمبر 2015 بناءً على طلب العراق، كان مؤشراً على الاستعداد العربي لاستعادة المبادرة، وقد أخذ المجلس موقفاً واضحاً من التغلغُل التركي في الأراضي العراقية في شمال البلاد، وساند الحكومة العراقية بمطالبتها انسحاب الوحدات العسكرية التركية فوراً إلى خارج الحدود، برغم أن بعض الدول العربية تربطها علاقات صداقة مع تركيا.
قد تكون الانطلاقة الأوضح للدينامية العربية حصلت في الاجتماع الذي انعقد لمجلس وزراء خارجية الجامعة في 10 يناير/كانون الثاني 2016 بطلب من المملكة العربية السعودية في مقر الجامعة بالقاهرة، ذلك أن صدى الموقف الذي اتخذته الجامعة في مواجهة التدخلات الإيرانية في شؤون الدول العربية الداخلية، كان واسعاً جداً. وللمرة الأولى يتحقّق مثل هذا الإجماع على قرار منذ فترة طويلة. وفي هذا السياق؛ لا تأثير لامتناع لبنان عن التصويت على القرار، نظراً لحساسية الأوضاع اللبنانية، ولكون الدبلوماسية اللبنانية تعاني تجاذبات مستعصية منذ فترةٍ طويلة، زاد من هشاشتها الانحلال الدستوري الذي يُصيب مُعظم المؤسسات الشرعية اللبنانية جراء الفراغ في سدة رئاسة الجمهورية.
وزير خارجية مصر سماح شكري كان واضحاً ربما أكثر من غيره أمام الاجتماع الوزاري العربي، وهو أعلن عن توتر يشوب العلاقات العربية الإيرانية منذ عشر سنوات. وأن الاختلال ناتج عن تدخلات إيرانية في الشؤون الداخلية للدول العربية.
أما رئيس الجلسة، وزير خارجية دولة الإمارات العربية، سمو الشيخ عبدالله بن زايد آل نهيان؛ فقد أشار إلى أن الدول العربية صبرت بما فيه الكفاية على التدخلات الإيرانية التي شجعت على الفرقة الطائفية، ومدت بالسلاح والمال ميليشيات مارست أعمالاً إرهابية في أكثر من دولة عربية.
«إسرائيل» هي المُستفيد الأول من طبيعة الأحداث التي تجري في المنطقة، والتدخلات الإيرانية تخدم سياستها من دون أدنى شك، والطبيعي في السياق السياسي؛ أن يكون هناك تعاون بين الدول العربية وإيران في مختلف المجالات، ولكن التعاون يفرض احترام كل طرف لخصوصيات الطرف الآخر، وهذا ما لم يحصل. فتدخل إيران في اليمن وسوريا ولبنان والعراق ودول الخليج وعلى الساحة الفلسطينية، خلق إشكالات كبيرة، وأدى إلى شرذمة الصفوف، وتشجيع الحركات الانفصالية، وأنتج أجواء مذهبية لم تَعتد عليها المكونات العربية من قبل، والأهم أن هذه السياسة خدمت «إسرائيل» التي تضمُر الشر لكل الدول الإسلامية.
وزير خارجية العراق إبراهيم الجعفري – الذي حظي بمساندة الجامعة لموقف بلاده من التدخل التركي – طرح مبادرة للتهدئة مع إيران. ولكنه صوت إلى جانب القرار العربي، وهذا تطور في منتهى الإيجابية، وكذلك فعلت الجزائر التي كانت تتردد في اتخاذ موقف في السنوات الأخيرة. وتؤسس هذه المقاربات الجديدة لمرحلة من التعاون العربي الذي قد ينتشل التضامن من قعر الوادي إلى سفوح واعدة.
أمين عام الجامعة العربية نبيل العربي دعا إلى ضرورة عقد مؤتمر استثنائي لبحث التحديات التي تواجه الأمن القومي العربي. وما يُحِيط بالوضع العربي من مخاطر تستوجب عقد مثل هذا المؤتمر. فالتدخلات الخارجية في شؤون الدول العربية ازدادت على وتيرة غير مسبوقة، وحوَّلت الساحات العربية إلى أماكن لتصفية الحسابات بين الدول الكبرى، وبين بعض الدول والمجموعات الإرهابية. والمواطن العربي يدفع ثمن هذه التجاذبات من دمائه وممتلكاته، ومن مستقبل أبنائه. و«إسرائيل» تُعربِد مستغلةً الأوضاع المأساوية، وتنكِّل بالشعب الفلسطيني يومياً، وتزيد من قضم الأراضي وبناء المستوطنات الجديدة من دون رادع.
ما زالت الفرصة مُتاحة أمام جامعة الدول العربية كي تقول كلمتها الفصل في شؤون الأمة. فوحدها الإرادة العربية المُشتركة، يمكن أن تُنقذ الوضع العربي مما يخبط فيه. والمخاطر ستزداد أكثر فأكثر إذا لم تبادر الجامعة إلى مواجهة التحديات، ولن تبقى دولة عربية واحدة بمنأى عن الخطر. ووحده تفعيل دور الجامعة يفرض نفسه على الجميع، ويمنع التدخلات المتمادية في سوريا والعراق واليمن ولبنان وليبيا، ويقف في وجه العدوان المتمادي على الشعب الفلسطيني. وإذا ما توافرت الإرادة العربية فإن الكثير من الأزمات المُستعصية قد تكون قابلة للحل من دون انتظار التدخلات الدولية التي تتحكم فيها مصالح الدول الكبرى، ولا تندفع لتحقيق مصالح الشعوب.
د.ناصر زيدان
صحيفة الخليج