لم يكن «داعش» مجرّد حركة إرهابية متطرّفة، بل إنه شبكة واسعة ومصبٌ لتيارات وجماعات إرهابية مختلفة، خصوصاً وقد استقطب عناصر شابة من بلدان بعيدة، سواء في أوروبا أو أمريكا أو إفريقيا، الأمر الذي جعله حركة عالمية عابرة للحدود والقارات. إنه شكلُ من أشكال تحالف إرهابي دولي خارج نطاق الجغرافيا.
خلال العقود السبعة الماضية، أي ما بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية، شهد العالم ظهور منظمات إرهابية اتخذت من العنف سبيلاً لتحقيق أهدافها، على نحو منفلت، لكن المنظمة الأخطر والأكثر وحشية كانت «داعش». وإذا كانت بعض القوى لم تستشعر خطره، إنْ لم يكن الاستفادة منه وتوظيفه في الصراع، فعلى الأقل غضّ النظر عنه، لكنها شعرت بخطره الحقيقي بعد أن وصلت نيرانه إلى عقر دارها، وقد دفع ذلك العالم إلى استصدار قرارات دولية من مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة لتحريمه وتجفيف منابعه وموارده المالية وملاحقة أعضائه.
وبعد احتلال الموصل في 10 يونيو/حزيران 2014 استوجب الأمر تشكيل تحالف دولي لمواجهة «داعش»، ودعت الولايات المتحدة إلى التعاون والتنسيق العسكري والاستخباري والأمني للتصدّي له، وانضمّ إلى هذا التحالف نحو 60 دولة. لكن هذا التحالف لم يكن شاملاً، ولهذا السبب، وبعد حين، راجت فكرة قيام تحالف رباعي في مقدمته روسيا وبمشاركة إيران (المستبعدتان من التحالف الدولي)، إضافة إلى العراق وسوريا، وهما الدولتان الأكثر تضرّراً من «داعش»، علماً بأن إيران وروسيا هما حليفتان لسوريا، إلاّ أن الدعوة إلى التحالف الرباعي أغضبت واشنطن التي ترتبط مع بغداد باتفاقية الإطار الاستراتيجي الموقعة في العام 2008، فطلبت من رئيس الوزراء العراقي حيدر العبادي عدم مشاركة الروس في عمليات قصف «داعش»، وقد عبّر العبادي عن استجابته بالقول إن التحالف ليس أكثر من «خلية استخبارية» لتبادل المعلومات بخصوص «داعش» والإرهاب الدولي.
كان من المتوقع أن تكون نتائج التحالف الدولي أكثر عمقاً وأسرع أثراً في القضاء على «داعش»، ولكن على الرغم من انقضاء عام ونيّف على قيامه، فلا يزال «داعش» يهيمن على أراض شاسعة ويحتفظ بالموصل، حتى إن لحقت به خسائر غير قليلة، لاسيّما مؤخراً عند تحرير مدينة الرمادي. وهناك قوى عراقية، وبالتحديد الحشد الشعبي المدعوم من إيران، تشكّك في دوره، بل وبرغبته في القضاء على «داعش»، وأحياناً تتهمه لا بالتقاعس فحسب، بل بتسهيل مهمات «داعش»، سواء بقصف مواقع صديقة، وتقول إن هذا تكرّر أكثر من مرّة، أو برمي مساعدات من الجو لمناطق يسيطر عليها «داعش»، عن طريق الخطأ.
لو حلّلنا أهداف التحالف الرباعي، سنراها لا تختلف كثيراً عن أهداف التحالف الدولي وأهداف التحالف الإسلامي، والمقصود القضاء على «داعش»، حسبما هو معلن، لكن ذلك ليس كافياً، فالأهداف السياسية وبالتداخل مع ظروف الصراع الدولي، خصوصاً ما بعد «داعش» هي الأساس، ولهذا تم استبعاد روسيا، والأمر ليس بعيداً عن علاقة ذلك بالنزاع مع أوكرانيا ونصب صواريخ أمريكية على حدودها في عدد من بلدان أوروبا الشرقية، والخلاف الأمريكي – الروسي يؤشّر لاحتمالات عودة الحرب الباردة، خصوصاً في منطقتنا، فروسيا تصرّح على لسان وزير خارجيتها لافروف بأنها لن تسمح بإطاحة النظام السوري، ولهذه الأسباب رمت ثقلها في المعركة لمواجهة «داعش» والجماعات المسلحة، في حين إن القوى الأساسية في التحالف الدولي تضع ذلك شرطاً للتسوية في سوريا، وإن تغيّرت بعض الأولويات بعد دخول الروس.
التنافس بين المحاور أصبح على أشدّه، حيث قامت واشنطن مؤخراً وبعد التدخل الروسي في سوريا بقصف مكثّف «لداعش»، لتحرم الروس من الظهور بمظهر المتصدّي الأساسي «لداعش»، والأمر لا يتعلق بالعراق فحسب، بل طلبت من حلفائها» بمن فيهم أطراف معارضة للحكم في سوريا، التوجّه ضد «داعش» لأنه يمثل الخطر الأكبر. وقد لا يكون بعيداً عن هذا المشهد إسقاط تركيا طائرة روسية على الحدود السورية – التركية، لأنه حسب قولها فإن القصف الروسي استهدف جماعات معارضة من التركمان وليس مواقع «داعش».
لقد انتهت حقبة النأي عن النفس التي امتازت بها الدبلوماسية السعودية لعقود من الزمان، حيث ابتعدت فيها الرياض عن التدخل المباشر، لكن أحداث اليمن وسيطرة «أنصار الله» الحوثيين على مقاليد السلطة، أشعرها بأن الخطر بدأ يتسلل إليها، فأقدمت على تشكيل قوة عسكرية بقيادتها باسم «عاصفة الحزم»، ودخلت بثقلها مستخدمة جميع إمكاناتها العسكرية والسياسية والدبلوماسية في المعركة.
قبل اليمن أرسلت الرياض قواتها إلى المنامة لمواجهة حركة احتجاج شهدتها البحرين، لشعورها بأن نجاحها لا يقضي على نظام حليف وعضو في مجلس التعاون الخليجي فحسب، بل يهدّدها بالصميم، وفي كلا الحالين في البحرين واليمن، كانت الرياض تشعر بقلق متعاظم من النفوذ الإيراني، وهو ما عبّرت عنه إزاء موقفها من الملف النووي الإيراني، خصوصاً أن نفوذ طهران كان يمتد إلى بغداد ودمشق وبيروت وغزة، ولذلك فإنها بالتدخل في البلدين استهدفت وضع حاجز خليجي بوجه التمدّد الإيراني.
إن النفوذ السعودي يشكل قطب الرحى الأساسي لمجلس التعاون الخليجي، وهو ذاته اليوم يشكّل المحرّك الرئيسي للتحالف الإسلامي. وبقراءة في هندسة التحالفات العسكرية والسياسية الإقليمية والدولية، سنلاحظ هناك جهة نافذة وقوة مركزية وقوى أخرى مكمّلة أو ملحقة، فحلف الناتو (الأطلسي) الذي تأسّس في مدة الحرب الباردة ما بعد الحرب العالمية الثانية، كانت الولايات المتحدة الطرف الفاعل فيه ومعها بريطانيا وفرنسا وألمانيا. وفي حلف وارسو كانت هناك موسكو ومن خلفها عواصم أوروبا الشرقية، وفي حلف بغداد (السنتو) كانت واشنطن من وراء الستارة، ومعها لندن في الواجهة.
هكذا اليوم، فالحلف الدولي بقيادة واشنطن، والحلف الرباعي هناك الروس وبدرجة أدنى الإيرانيون، وفي الحلف الإسلامي تبرز قيادة الرياض، ولكن السؤال المهم إلى أين ستنتهي تلك التحالفات؟ هل ستقتصر مهمتها المعلنة بالقضاء على «داعش»، أم أنها تريد تقرير مصير دول المنطقة حيث ستتحدّد المصالح الجديدة وفقاً لخرائط جديدة؟ وهو أمر مفروغ منه في عالم السياسة. وبغض النظر عن اختلاف المصالح والإرادات والأدوات وتفاوت الإمكانات، فإن خطر «داعش» الأساسي يهدّد المجتمعات الإسلامية بالدرجة الأساسية، حتى إن كانت مخاطره كونية.
لقد اقتحم «داعش» نمط حياة الناس، وهو يريد فرض طريقة عيش تتناقض على ما اعتادوا عليه من فهم ميسّر ومبسّط ومتسامح للإسلام. وبهذا المعنى فإن مثل هذا التهديد للمجتمعات يمتد إلى الدين وتعاليمه بتشويهها وإظهارها لصيقة بالوحشية والعنف والإرهاب، خصوصاً محاولات غسل أدمغة بعض الشباب ودفعهم للقيام بعلميات انتحارية، وهكذا أخذ يستقرّ في أوساط غير قليلة في العالم، أن العرب والمسلمين هم من أنتج «داعش»، وهم المسؤولون عنه، وإنْ كان مثل هذا الأمر جزءًا من صناعة إعلامية غربية.
وحين يمتد التهديد إلى الأمن ويتهدّد الاستقرار، فالمسألة لا تبقى في حدود فكر متطرّف أو تكفيري فحسب، لأن ذلك انتقل إلى الفعل، خصوصاً بغزو واحتلال محافظات ومناطق شاسعة بزعم إقامة الخلافة، وهو الأمر الذي سيترك تأثيره في التنمية والتقدّم، حيث ستضطر الدولة مهما كانت لتسخير كامل إمكاناتها العسكرية والاقتصادية لمواجهة هذا الخطر، وهذا يعني أن البلاد ومواردها ستتّجه نحو العسكرة وسيؤثر ذلك في حالة الاستقرار، بفرض أحوال الطوارئ.
وبسبب «داعش»، وقبله القاعدة والمزاعم بمحاربة الإرهاب الدولي، جاء التدخل الخارجي والاحتلال الأجنبي، مهدداً السيادة ومتجاوزاً على الكرامة، بل واضعاً مصير البلاد على طاولة التشريح، وهو الأمر الذي يمكن مشاهدته على نحو جلي في العراق وأفغانستان بعد احتلالهما، وفيما بعد في ليبيا وسوريا واليمن.
د.عبدالحسين شعبان
صحيفة الخليج