استعرض الرئيس الأميركي، باراك أوباما، في خطابه عن “حالة الاتحاد”، الثلاثاء الماضي، أمام الكونغرس حصيلة سبع سنوات من إنجازات إدارته، كما يراها، وبعض الإخفاقات، وتطرّق إلى تحدياتٍ تواجهها الولايات المتحدة والعالم، قال إنها ستحظى باهتمام إدارته في عامها المتبقي. لم يقتصر الخطاب على مجرد جردة حساب، بقدر أوضح، أيضاً، الأسس التي ستحكم ما بقي من مدة رئاسة أوباما، والقواعد التي سيسترشد بها في ذلك. وبعيداً عن محاور كثيرة اشتمل عليها، من الاقتصاد إلى التعليم، ومن برامج الرعاية الصحية إلى إصلاح النظام السياسي.. إلخ، ما يعنينا هنا أكثر هو حديثه عن مقاربته السياسة الخارجية، وتحديداً فيما يخصنا نحن العرب.
أمران حملا أوباما إلى الرئاسة أواخر عام 2008، معارضته التورط الأميركي في العراق عام 2003 تحت إدارة سلفه جورج بوش، ثم الركود الاقتصادي منذ أواخر عام 2007. حينها، كان المزاج الشعبي الأميركي المنهك من ثماني سنوات من الحروب المتواصلة لإدارتي بوش، تحت لافتة غامضة فضفاضة، أعلنت “الحرب العالمية على الإرهاب”، وكذلك من التكاليف الباهظة، إنسانياً واقتصادياً لهذه الحروب، متقبلاً فكرة إحداث تغيير جذري في مسار البلاد، وكان أوباما عنوان ذاك التغيير، أو سمّه الانقلاب الذي حصل في صيرورة التاريخ الأميركي. لم يكن أوباما أول أسود، فحسب، يُنتخب رئيساً في تاريخ بلد مارس العبودية قرنين ونصف القرن بحق السود، بل إن أصوله، من ناحية والده، إسلامية أفريقية. وقد حاولت المنافسة الديمقراطية، حينها، هيلاري كلينتون، أن تضرب، ضمنياً، على هذين الوترين الحسّاسين، على اعتبار أن أوباما “غير قابل للانتخاب”، غير أن المفاجأة أنه هزمها، على عكس جُلِّ التوقعات، في الانتخابات التمهيدية، ثمَّ انتصر على “بطل حرب” سابق، هو الجمهوري جون ماكين، في الانتخابات العامة.
كشف نجاح أوباما ذاك، بوضوح حينها، عن أن أميركا تبحث عن مسار آخر غير مسار جورج بوش، وهو أمرٌ فهمه أوباما واستوعبه جيدا. ولذلك، نجد أن الرجل جاء بناء على تعهدات كثيرة وكبيرة، لاقت رواجاً شعبياً حينها، مثل الانسحاب من العراق وأفغانستان، وإصلاح الاقتصاد الأميركي. وفعلا، حقق أوباما وعده الأول بالانسحاب من العراق كلياً، أواخر عام 2011، ثم بسحب أغلب القوات المقاتلة من أفغانستان أواخر 2014، وأحدث إصلاحات هيكلية في بنية الاقتصاد الأميركي، تمكّنت من إخراجه من حالة الركود إلى مرحلة أفضل، وإن لم تكن كافية، حسب الرأي العام الأميركي. كانت نظرية أوباما، وما زالت، تشدد على ضرورة حرف أميركا عن مسار الحروب اللامتناهية، خصوصاً الحرب الهلامية، غير الواضحة وغير محددة العدو والمعالم، الموسومة بـ”الحرب العالمية على الإرهاب”، وإعادة بناء الاقتصاد الأميركي، قائمة على أنه لا توجد قوة على مدى العصور استطاعت أن توازن بين تدخلات عسكرية خارجية واسعة واقتصاد داخلي مزدهر وقوي. وقد عكس خطابا أوباما، أمام الكلية العسكرية الأميركية “ويست بوينت”، عامي 2009 و2010، هذا المعنى، غير أن ذلك لم يعن أن الرجل الذي يصر على أنه ليس رئيس حرب سيخلي موقع الزعامة الأميركية في العالم لأي طرف آخر.
المسألة الأخيرة، المتعلقة بالزعامة الأميركية عالمياً، أحد أكثر الموضوعات إثارة للجدل في
أثناء رئاسة أوباما، فخصومه من الجمهوريين يرونه أهدر هذه الزعامة، بما يصفونه تردّده وضعفه، ويسوقون أمثلة على ذلك، التمدد الروسي في شرق أوكرانيا مطلع 2014، والتوسع الصيني المستمر في بحر الصين الجنوبي، أو في القيادة الأميركية “من الخلف”، كما في ليبيا عام 2011، عندما أوكلت إدارته مهمة قصف قوات الرئيس الليبي السابق، معمر القذافي، جواً لحلف الناتو، واكتفت الولايات المتحدة بالمشاركة في الضربات الجوية. ويقول هؤلاء إن الزعامة الأميركية تتراجع اليوم. في المقابل، تقوم نظرية أوباما، أو ما تعرف بـ “عقيدة أوباما” في السياسة الخارجية، على أن الولايات المتحدة لن تتحرّك منفردة، وستقود تحالفاتٍ دولية في القضايا التي تؤثر على الاستقرار العالمي، وهي، في كل الأحوال، لن تتورّط في حروبٍ برية واسعة، على غرار فيتنام والعراق، من دون أن يعني ذلك أنها لن تتحرّك منفردةً، في حال هُدّد الأمن القومي الأميركي، ومصالح الولايات المتحدة، أو أمن ومصالح حلفائها، مباشرة. وبدل التورط البري في حروب طويلة ومُستنزفة إنسانياً ومادياً، مالت إدارة أوباما أكثر إلى توظيف القوة الجوية الأميركية الضاربة، وهجمات الطائرات من دون طيار، وعمليات القوات الخاصة، فضلا عن تدريب قوات حليفة وتجهيزها، كما في العراق وأفغانستان وسورية، لتقوم بالمجهود الحربي البري.
هذا ملخص مقاربة إدارة أوباما السياسة الخارجية، غير أن الحصاد كان مُرّاً. أصبح تنظيم القاعدة الذي أعلنه أوباما العدو رقم واحد للولايات المتحدة إلى منتصف 2014، ووظف عناصر القوة الأميركية في استهدافه، في مرتبة ثانية بعيدة وراء تنظيم الدولة الإسلامية “داعش”، فتردد أوباما في استخدام القوة العسكرية في سورية، ومعارضته تسليح المعارضة بأسلحة نوعية، ثم تراجعه عن تهديده بقصف منشآت النظام العسكرية عام 2013، رداً على استخدامه السلاح الكيماوي، أحدث فراغاً في سورية ملأته “داعش”، جاعلة من سورية اليوم منطلقاً لهجماتها على الولايات المتحدة وحلفائها الآخرين في المنطقة والغرب، بل وفي العالم. كذلك، أثبت العنصر القائم في مقاربته على إعداد وتدريب وتسليح قوات حليفة لتقوم بالمجهود الحربي البري فشله، في يونيو/حزيران 2014، عندما اجتاحت “داعش” الموصل، ومناطق شاسعة أخرى في العراق، مما أدى عملياً إلى إعادة إرسال قوات أميركية إلى ذلك البلد، في تعبير مرير عن فشل مقاربة أوباما في هذا الصدد، مهما حاول أن يلطف هذه الحقيقة، بصغر حجم القوات المنتشرة في العراق، أو بأنها ليست قوات مقاتلة على الخطوط الأمامية. ثم إن تردّد أوباما في التصدّي بشكل أكثر حزماً لروسيا في أوكرانيا، فضلا عن غياب استراتيجية واضحة لإدارته في سورية، فتح الباب واسعاً أمام تدخل روسي مباشر في الصراع في سورية في أواخر سبتمبر/أيلول الماضي.
ذلك غيض من فيض، في حصاد السياسة الخارجية الأميركية تحت إدارتي أوباما، الموصومة، من خصومها، بالتردد والغموض، والمتهمة بإفقاد أميركا هيبتها. ولعل ذلك ما دفع أوباما إلى تخصيص جزء معتبر من خطابه “الوداعي” للدفاع عن مقاربة إدارته السياسة الخارجية، رافضاً في ذلك منطق القائلين إن “أعداءنا تتعزّز قوتهم في حين أن أميركا تضعف”، مشدداً على أن “الولايات المتحدة أقوى دولة على وجه البسيطة”. ولكن، أين نحن العرب وقضايانا في ما تبقى من رئاسة أوباما؟
الجواب المباشر، لن يتغير الكثير في مقاربة إدارة أوباما وسياساتها في المنطقة التي ساهمت في إحداث كثير من الفراغ والفوضى فيها. هذا لا يعني أن اللوم يقع على الولايات المتحدة فحسب، بل نحن أول من يُلام، خصوصاً مع فشلنا جميعاً، شعوباً وأنظمة وقوى سياسية، في التعامل مع موجات الثورات العربية في الأعوام الماضية. أوضح أوباما، في خطابه، أن الولايات المتحدة تحت حكمه لن تسعى إلى التورط في “وَحْلٍ” عسكري بري جديد في المنطقة، معتبراً أن “الشرق الأوسط يمر بتحولات، ستستمر وقتاً طويلاً، متجذرة في نزاعات تعود إلى آلاف السنين”. تنبؤ رهيب ومتشائم، وهو لا شك كارثة على المنطقة وأبنائها، إن صح، لكن الأسوأ من تنبؤ أوباما ذاك هو ما سكت عنه. لم يتطرّق في خطابه إلى مواءماتٍ جديدة في مقاربة إدارته قضايا المنطقة، خصوصاً في سورية التي أصبحت ثورتها، للأسف، محكومةً بالتردّد الأميركي، وضعف حلفائها، جرّاء “الفيتوهات” الأميركية على تسليحها بشكل فعال، في مقابل جرأة روسية-إيرانية في دعم نظام بشار الأسد. بمعنى آخر، لا يبدو أن سورية في وارد الخروج قريباً من أزماتها، وكذلك العراق واليمن. فالواضح أن أوباما يعتبر الاتفاق النووي مع إيران أكبر منجز خارجي لإدارته، وهو ليس في وارد إفساد ذلك “المنجز”، ولو لصالح حلفائه العرب، وخصوصاً في الخليج العربي. أمر آخر شديد الأهمية لاستقرار المنطقة سكت عنه، وهو الموضوع الفلسطيني، فأوباما الذي جاء إلى البيت الأبيض واعداً بأن تشهد سنوات رئاسته قيام دولة فلسطينية، يتهيأ للمغادرة من دون أن يتذكّرها، ولو بكلمة عابرة لذر الرماد في الأعين، في خطابه الأخير عن “حالة الاتحاد”. لذلك، يحق لإسرائيل أن تحتفل اليوم، فهي ليست بحاجة، الآن، أن تنتظر الرئيس القادم ليلغي ضغوط إدارة أوباما عليها، فأوباما تكفل بالأمر، ومسح كل وعوده بصدد “التسوية السلمية”.
قالت العرب: “ما حَكَّ جِلْدَكَ مِثْلُ ظُفْرِكَ”، وهذا يصح على توصيف حالنا، نحن العرب، اليوم. إن لم نبادر إلى قلع شوكنا بأيدينا، فإن أحداً لن يَقْتَلِعَهُ لنا، بل قد يزرعون مزيداً منه، وفي مقدمة هؤلاء الولايات المتحدة. هل نستوعب هذا الأمر؟ أشك.