عُقد هذا الأسبوع اجتماع وزراء خارجية “المجموعة المصغرة للتحالف الدولي لمحاربة تنظيم «الدولة الإسلامية في العراق والشام» («داعش»)/«الدولة الإسلامية»” في روما بغية تقييم عمل التحالف وتسريع وتيرة جهوده الرامية إلى إضعاف تنظيم «الدولة الإسلامية» وإلحاق الهزيمة به في النهاية. وشدد الوزراء في بيان على أنهم “مصممون على إبقاء تنظيم «داعش» معزولاً عن النظام المالي الدولي وتعطيل بنيته التحتية الاقتصادية والمالية”. من أجل الوفاء بهذا التعهد، لا بد من التصدي لنفاذ التنظيم ليس للمصارف فحسب، بل لمقدمي خدمات التحويل أيضاً على غرار مكاتب الصرافة، التي تلعب دوراً هاماً في الاقتصادات الوطنية ويصعب أكثر ضبطها وتنظيمها. وفي كانون الأول/ديسمبر، اتخذ “البنك المركزي العراقي” خطوات بحق ما يقارب 150 مكتب صرافة عراقي، معظمها في مناطق خاضعة لـ تنظيم «الدولة الإسلامية» ولكن ليس كلها. ويُظهر ذلك إلى أي مدى يمكن للولايات المتحدة والهيئات التنظيمية الإقليمية، بالإضافة إلى شركاء آخرين في التحالف، أن توحد جهودها لعزل التنظيم عن النظام المالي الدولي.
الخلفية
نظراً لميزانية تنظيم «الدولة الإسلامية» لعام 2014 التي بلغت حوالي ملياري دولار، وصف مسؤولو وزارة الخزانة الأمريكية أن قدرة التنظيم على تحصيل الإيرادات من الأراضي الواقعة تحت سيطرته “لم يسبق لها مثيل”. وتتضمن مصادر تمويل التنظيم ما بين 500 مليون ومليار دولار، قام تنظيم «داعش» بالاستيلاء عليها من خزانات المصارف بينما كان يحتل المزيد من الأراضي (كسبها في عملية واحدة فقط)، وكذلك مئات الملايين من عمليات فرض الضرائب والابتزاز سنوياً، وعشرات الملايين شهرياً من مبيعات النفط، بالإضافة إلى مصادر أخرى. وفي حين يستمد تنظيم «الدولة الإسلامية» معظم مدخولاته من الأراضي التي يتحكم بها، فإن منعه من استخدام فروع المصارف ومكاتب الصرافة في أراضيه للقيام بتحويلات دولية أو استلامها، بهدف النفاذ إلى العملات الأجنبية وشراء السلع وتمويل المقاتلين الأجانب وربما أتباعه الأجانب، يشكل جزءاً أساسياً من استراتيجية عزل التنظيم.
لقد لعبت الضربات العسكرية دوراً متزايد الأهمية في إضعاف قدرة تنظيم «الدولة الإسلامية» على الحصول على الدخل انطلاقاً من الموارد المتوفرة في الأراضي الخاضعة لسيطرته. فضلاً عن ذلك، بما أن تنظيم «داعش» يستمد معظم دخله من استخراج الموارد الطبيعية وعمليات الابتزاز التي تستهدف الأنشطة التجارية، سيكون للخسائر في الأراضي التي يتكبدها التنظيم أثر مباشر على دخله الصافي. ومؤخراً، استهدفت الضربات الجوية أيضاً مراكز لجمع النقود وتوزيعها، مما جرّد التنظيم من ملايين الدولارات المخزنة في تلك “المخازن النقدية”، وفقاً لتقديرات عسكرية.
وسابقاً، اتخذت الحكومة العراقية وهيئات تنظيمية إقليمية أخرى خطوات لمنع فروع المصارف في الأراضي الخاضعة لـ تنظيم «الدولة الإسلامية» من المشاركة في النظام المالي على نطاق أوسع. ودخلت الولايات المتحدة ودول أخرى في شراكة مع السلطات العراقية ومقرات المصارف الدولية وهيئات أخرى ضمن الأسرة المالية الدولية من أجل مكافحة أساليب تحايل تنظيم «الدولة الإسلامية» للاستفادة من الخدمات المصرفية عن طريق فروع هذه المصارف بالإضافة إلى المصارف في سوريا. وتبحث المصارف الدولية اليوم بشكل وثيق عن دلالات حول تمويل تنظيم «داعش» وترفع التقارير عن الأنشطة المشبوهة إلى السلطات الأمريكية التي تقول إنّ هذه التقارير وفّرت “معلومات قيّمة حول الأنشطة المالية في مناطق يسيطر عليها تنظيم «الدولة الإسلامية»”. كما أن “البنك المركزي العراقي” قد أمر المؤسسات المالية المؤسسة في العراق بمنع التحويلات المصرفية من المصارف الواقعة في مناطق تحت سيطرة تنظيم «داعش» وإليها، بينما عملت المصارف الدولية التي لديها فروع إقليمية في هذه المناطق على نقل موظفيها بعيداً عن المناطق المحيطة بأراضي التنظيم [وإلى فروع أخرى].
وترمي جهود أخرى إلى الحد من الأموال الجديدة التي تدخل أراضي تنظيم «الدولة الإسلامية» من خلال مبادرات مكافحة التهريب والتوقف عن تسديد أجور الموظفين الحكوميين العراقيين، التي فَرَض عليها التنظيم ضرائب مباشرة وغير مباشرة في المناطق الخاضعة لسيطرته. وبينما تشتد الضغوط على أنشطة تحايل تنظيم «داعش» التي تهدف إلى الاستفادة من الخدمات المصرفية، أصبح التنظيم يعتمد أكثر فأكثر على مكاتب الصرافة لإرسال الأموال واستلامها.
مراكز الصرافة العراقية ومزادات الدولار
وتمثلت خطوة أخرى مهمة ذات صلة لعزل تنظيم «الدولة الإسلامية» بإشعار من تاريخ 16 كانون الأول/ديسمبر، المشار إليه سابقاً، والذي يمنع 142 مكتب صرافة من المشاركة في مزادات العملة التي يجريها “البنك المركزي العراقي”. وتُعد مكاتب الصرافة، التي تم استبعادها إلى حد كبير عن الأنشطة المصرفية، إحدى الوسائل الأساسية التي يستخدمها تنظيم «داعش» لنقل الأموال. وتجدر الإشارة إلى أن الإشعار الذي أصدره “البنك المركزي العراقي” باللغة العربية فقط، ذكر مكاتب صرافة تقع بمعظمها في الأراضي الواقعة تحت سيطرة تنظيم «الدولة الإسلامية». إلا أن خمسة من هذه المكاتب هي في كركوك، التي تقع خارج أراضي التنظيم مباشرةً وهي منطقة ناشطة تسمح بتدفق الدولارات داخل تلك الأراضي، وفقاً للمسؤولين العراقيين.
وتمثل مزادات الدولار شريان الحياة بالنسبة للقطاع المالي العراقي، إذ تسمح للمصارف ومكاتب الصرافة بالنفاذ إلى العملات الصعبة الضرورية للقيام بالتجارة الخارجية وتلبية الطلب على اختزان القيمة بشكل موثوق من قبل المجتمع الذي يعتمد إلى حد كبير على السيولة النقدية. وبما أن “البنك المركزي العراقي” تأسس عام 2004 [كمصرف مركزي مستقل في العراق]، إثر الغزو الأمريكي لتلك البلاد، قام “البنك الاحتياطي الفيدرالي” في نيويورك بشحن دولارات إلى العراق، تم سحبها من احتياطات الدولار العراقية لدى “البنك الاحتياطي الفيدرالي”.
وعلى غرار الشركات والمصارف والتجار العراقيين الآخرين، يحتاج تنظيم «الدولة الإسلامية» أيضاً للنفاذ إلى العملة الصعبة. فالأموال النقدية التي نهبها التنظيم من خزانات المصارف، على سبيل المثال، والتي تُعد مصدر تمويل مهم بل غير متجدد بالنسبة إلى تنظيم «داعش»، كانت على الأرجح قد صدرت بمعظمها بالدينار العراقي، مما جعلها أقل فائدة للتجارة الخارجية. وبالمثل، كانت أجور الموظفين الحكوميين العراقيين المدفوعة لسكان الأراضي الواقعة تحت سيطرة تنظيم «الدولة الإسلامية» حتى تموز/يوليو 2014، عندما قامت بغداد بإيقافها، صادرة على الأرجح بالدينار العراقي أيضاً. وبالتالي، يمكن أن يستغل تنظيم «الدولة الإسلامية» مكاتب الصرافة الضعيفة للحصول على سيولة نقدية من خلال عملية الصرافة والقيام كذلك بتحويلات إلكترونية عابرة للحدود واستلامها.
وتأتي هذه الخطوة من قبل “البنك المركزي العراقي” في أعقاب تصريح أدلت به متحدثة باسم “البنك الاحتياطي الفيدرالي” الأمريكي لصحيفة “وول ستريت جورنال” في تشرين الثاني/نوفمبر، مفاده أن “البنك الاحتياطي” قد علق مؤقتاً شحنات العملة إلى العراق عام 2015 “رداً على طلب عملة أكبر من المعتاد والوضع الأمني المتغير في البلاد”. فقد تزايدت عمليات شراء الدولار العراقية بثلاثة أضعاف بين العامين 2012 و 2014. وينقل تقرير صحيفة “وول ستريت جورنال” الصادر في تشرين الثاني/نوفمبر مخاوف أمريكية، أكدها المسؤولون العراقيون، بشأن استخدام تنظيم «الدولة الإسلامية» لمكاتب الصرافة العراقية من أجل النفاذ إلى الدولار عن طريق المزادات.
وكانت مزادات العملة مثار جدل سابقاً. ففي عام 2012، أُقيل حاكم “البنك المركزي العراقي” سنان الشبيبي بعد أن قام بتقييد النفاذ الإيراني إلى المزادات، الذي كان وفقاً لكثيرين يزيد من تقلبات سعر صرف الدولار مقابل الدينار العراقي. وقد ارتبط الارتفاع الكبير والمفاجئ للطلب على الدولار في العراق آنذاك بالتراجع السريع في قيمة الريال الإيراني مع اشتداد الضغوط على الاقتصاد الإيراني من جراء العقوبات الدولية وسوء الإدارة الاقتصادية من قبل الرئيس الإيراني السابق محمود أحمدي نجاد. ووفقاً لصحيفة “وول ستريت جورنال”، في إطار عمليات تبادل المعلومات الجديدة بين المسؤولين الأمريكيين والعراقيين في أعقاب تعليق”البنك الاحتياطي الفيدرالي” لشحنات العملة عام 2015، أكد العراق أن هناك على الأقل ثلاثة مصارف إيرانية مدرجة [على القائمة السوداء لوزارة الخارجية/الخزانة الأمريكية] قد حصلت على ملايين الدولارات من خلال مزادات العملة، في خطوة شكلت انتهاكاً للعقوبات الأمريكية وذلك قبل منع هذه المصارف من المشاركة في المزادات.
تحقيق التوازن بين القضايا الأمنية والمنفعة الاجتماعية
إن خطر استغلال مكاتب الصرافة من قبل ممولي الإرهاب ليس بجديد. فتنظيم «الدولة الإسلامية» يحاول استغلال نفس القنوات غير الرسمية أو غير المنظمة بما فيه الكفاية التي استخدمتها إيران وغيرها من الجهات الفاعلة المالية غير المشروعة من قبل. وفي تقرير صدر مؤخراً حول الأنماط الناشئة لتمويل الإرهاب، شددت “فرقة العمل المعنية بالإجراءات المالية” – وهي هيئة حكومية – على ضعف مكاتب الصرافة ومقدمي خدمات التحويل الآخرين إزاء تمويل الإرهاب عندما لا يكونوا هؤلاء منظَّمين بشكل ملائم. وتشكل مكاتب الصرافة التي استهدفتها مؤخراً الحكومة العراقية خير مثال على ذلك، بما أن معظمها يقع ضمن مناطق تنظيم «الدولة الإسلامية» خارج نطاق صلاحية “البنك المركزي العراقي”. ومن خلال منع مكاتب الصرافة هذه من المشاركة بمزادات الدولار، وجدت الحكومة العراقية وسيلة فعلية لتنظيم هذه المؤسسات البعيدة المنال.
وعلى نطاق أوسع، تجدر الإشارة إلى أنه في المناطق التي يتعذر فيها على فئات المجتمع الاستفادة من الخدمات المصرفية أو التي تفتقر لهذه الخدمات، يمكن لمكاتب الصرافة أن تشكل وسيلة [لهذه الفئات] هي في أشد الحاجة إليها لإرسال التحويلات أو استلامها، بما فيها الدعم الإنساني، في مناطق النزاع ومحيطها. ولكنها أيضاً عرضة للاستغلال كقناة محتملة لمزج الأموال غير المشروعة مع التحويلات المالية المشروعة. وحتى في المناطق التي لا تشهد نزاعاً ويتعذر فيها على أعداد كبيرة من السكان الاستفادة من المصارف، تشكل مكاتب الصرافة جسراً بين الاقتصادات غير النظامية المرتكزة على السيولة النقدية من جهة والمصارف التي تعول عليها للقيام بتحويلات دولية من جهة أخرى. إلا أن هذا الغطاء من شأنه التعتيم على الجهة الكامنة وراء صفقة معينة وحجب العناصر السيئة عن المؤسسات المالية العالمية التي تستخدمها لإتمام الصفقات.
من البديهي بالنسبة إلى تدفقات الأموال، سواء أكانت نظامية أو غير نظامية، أن يؤدي قمع النشاط غير المشروع في مكان معين على الأرجح إلى ازدهاره في مكان آخر. لذلك، يجب على الهيئات التنظيمية الإقليمية أن تتخذ خطوات حاسمة، كما فعل “البنك المركزي العراقي”، لحماية أنظمتها المالية وعزلها عن مقدمي خدمات التحويلات غير المرخص لهم أو غير المنظمين بما فيه الكفاية والذين يكونون عرضة للاستغلال من قبل الجهات الفاعلة غير المشروعة. وتحقيقاً لهذه الغاية، قام “البنك الاحتياطي الفيدرالي” الأمريكي، بالتعاون مع “البنك المركزي العراقي”، بوضع آليات لتبادل المعلومات وضمانات لحماية المصارف ومكاتب الصرافة على حد سواء من الاستغلال ومنع تنظيم «الدولة الإسلامية» من الحصول على الأوراق النقدية الأمريكية. إن ذلك لا يمنع تنظيم «داعش» من نقل الأموال فحسب، بل يحمي أيضاً مكاتب الصرافة الشرعية من الاستغلال، وبذلك يبقيها مفتوحة ومتاحة للجمهور.
كاثرين باور وماثيو ليفيت
معهد واشنطن