في 26 شباط/ فبراير، وفي إطار الجولة الأخيرة من الانتخابات البرلمانية، سيصوّت الإيرانيون لتحديد تركيبة “مجلس خبراء القيادة”. وعلى الرغم من أن هذا الكيان لا يتمتع عادة سوى بأهمية هامشية في أحسن الأحوال، إلا أنه قد يلعب دوراً هاماً في عملية الخلافة خلال فترة ولايته المقبلة، لذلك فإن هذه الانتخابات جديرة بالمراقبة.
ما هو “مجلس خبراء القيادة”؟
عملياً، تبقى الوظيفة الوحيدة لهذا المجلس تعيين المرشد الأعلى الجديد عند وفاة المرشد الحالي أو إذا ما أصبح غير قادر على القيام بمهامه. لذلك فإن “المجلس” كان بلا عمل إلى حد كبير لحوالي ثلاثة عقود. بيد أن ثمانية وثمانين من آية الله الذين سيفوزون في الانتخابات البرلمانية القادمة سيشغلون مقاعدهم لمدة ثماني سنوات، ونظراً إلى عمر المرشد الأعلى علي خامنئي المتقدم (77 عاماً)، يتوقع معظم المراقبين أن أعضاء “المجلس” سيواجهون التحدي المتمثل في تعيين خلف له. وهذا الاحتمال يجعل الانتخابات المقبلة أكثر أهمية من المعتاد، وذلك ليس فقط بالنسبة إلى الفصائل المختلفة داخل النظام، بل أيضاً بالنسبة إلى المواطنين الذين هم عادة أقل حماسة بكثير في انتخابات “مجلس خبراء القيادة” من حماستهم في الانتخابات الرئاسية والبرلمانية والبلدية.
من هم أعضاء “المجلس”؟
في الوقت الذي لا يأتي الدستور على ذكر مؤهلات أعضاء “المجلس”، فإن الهيئة نفسها قررت قبل سنوات استبعاد شخص ليس بآية الله (المادة 108 من الدستور تسمح للمجلس بوضع التنظيمات الخاصة به، وهو حق لا يمنح لأي هيئة حكومية أخرى). كما يجب على كل عضو أن يكون “مجتهداً”، أي فقيهاً شيعياً درس بما يكفي للحصول على حق “الاجتهاد”، وهي القدرة الفكرية على تفسير النصوص الدينية والتمتع برأي خاص حول الشريعة الإسلامية. ويجب على كل مرشح أن يتمتع بسمعة طيبة في التمسك بالدين والأخلاق، وبوجهات نظر سياسية واجتماعية سليمة، وبإيمان قوي في جمهورية إيران الإسلامية، وبسجل جنائي نظيف، وكان “المجلس” الثاني قد حدد جميع هذه المؤهلات في الفترة (1984-1991).
إن الشرط الجوهري في هذا الإطار هو “الاجتهاد”. فنظراً إلى أن النظام يستمد شرعيته من آية الله الحاكم ويعتبر أن واجبه الأسمى هو تنفيذ الشريعة، فقد حمّل “الاجتهاد” معانِ ووظائف سياسية غير مسبوقة. وعلى الرغم من السيطرة الشخصية الواسعة للمرشد الأعلى في إيران، إلا أن السلطة الدينية الشيعية ليست مركزية رسمياً مثل البابوية الكاثوليكية، لذلك لا يمكن للحكومة أن تعتمد الحياد تجاه المؤهلات الدينية والقانونية لأولئك الذين قد يرغبون في تولي مناصب حكومية أو التأثير على عملية صناعة القرار والرأي العام. وبالتالي، أُعطي “مجلس صيانة الدستور” – وهو هيئة أصغر بكثير تتألف من إثني عشر عضواً معيناً بشكل مباشر أو غير مباشر من قبل المرشد الأعلى وتتمتع بصلاحيات واسعة النطاق – مسؤولية رصد المؤهلات الدينية للمرشحين للانتخابات البرلمانية وانتخابات “مجلس خبراء القيادة” (انظر المرصد السياسي 2548، “الانتخابات البرلمانية الإيرانية: نظرة على عملية الموافقة على المرشحين”). ويعني ذلك أنه على الأفراد الذين يرغبون في لعب دور في الحكومة باستخدام مؤهلاتهم الدينية أن يلبوا معايير سلطات النظام، حتى لو كانوا معروفين جيداً كـ “مجتهدين” من قبل المرجعيات التقليدية الدينية.
والعكس صحيح أيضاً، فإذا كان النظام يريد السماح لرجل دين بأن يشغل منصباً محدداً حصراً لآية الله، فإنه لن يتردد في استخدام الاعتبارات السياسية و”مصالح النظام” لتبرير إعلانه عن ذلك المرشح كشخص يحمل لقب آية الله حتى ولو كان يفتقر إلى المؤهلات الدينية اللازمة والخلفية التعليمية لهذا اللقب. فحتى خامنئي نفسه لم يكن يحمل لقب آية الله إلى حين تعيينه خلفاً لروح الله الخميني.
وقد أدى هذا التدخل العميق من قبل النظام إلى إضعاف سلطة المرجعيات الدينية التقليدية وشوّه النظام التعليمي والتسلسل الهرمي. كما أدى إلى اصطناع فئة جديدة من حاملي لقب آية الله الذين لا يتمتعون بنفوذ اجتماعي كبير لكنهم شقوا طريقهم من خلال الدعاية عبر وسائل الإعلام والموارد الحكومية الأخرى، فضلاً عن عملية التسييس. وتقليدياً، كان حاملو لقب آية الله هم رجال الدين المبجلين على نطاق واسع في المناطق التي يقيمون فيها. وحتى إذا قرروا التعاون مع الحكومة، فهم ليسوا مدينين بسلطتهم للدولة، فقد عملوا كسلطات اجتماعية ودينية مستقلة. بيد أن تدخل النظام قد حوّل هذا التسلسل الهرمي وخفف من أهمية “مجلس خبراء القيادة”، الذي تم محو سلطته الرسمية بالإشراف على المرشد الأعلى من الناحية العملية.
وينطبق هذا الأمر بشكل خاص منذ وصول خامنئي إلى السلطة في عام 1989. فقد همش أي شخص حامل لقب آية الله ذي مكانة جيدة من الذين قد يشككون في مؤهلاته الدينية، وقام بدلاً من ذلك بتشجيع رجال الدين ذوي الرتب المتدنية الذين يعتمدون عليه وعلى أجهزة النظام للحصول على السلطة السياسية وتحقيق المكاسب المالية. وعندما يفوز رجال دين مماثلين لا محالة بمقاعد في “مجلس خبراء القيادة”، فهم لا يتمتعون بقاعدة ذات قوة اجتماعية كبيرة أو مؤهلات دينية جوهرية، لذلك فإنهم يميلون إلى تجنب اتخاذ أي قرارات من شأنها أن تضر بمصالح أصحاب المصلحة في النظام أو تتعدى على سلطة خامنئي. ومن خلال تكليف “مجلس صيانة الدستور” بالتحقق باستمرار من ولاء كل مرشح له، جعل خامنئي “المجلس” عبارة عن مؤسسة تقتصر على الرسميات تدعم جميع مواقفه دون نقاش وتضفي عليه شرعية غير مشروطة.
ونظراً إلى هذا التخفيف في الأهمية القائم منذ عقود طويلة، بالكاد يكون “المجلس” في وضع يسمح له بتحديد المرشد الأعلى القادم بشكل مستقل. وبالنسبة إلى الانتخابات المقبلة، وافق “مجلس صيانة الدستور” على 166 فقط من أصل 801 مرشحاً. إن المجال العام محدود جداً بحيث لن يواجه 9 مرشحون أي تنافس على مقاعدهم، وستتمتع الأغلبية بفرصة 50 في المائة بالفوز. وقد أمل “المعتدلون” الإيرانيون باستخدام نجاحهم الدبلوماسي الأخير (على سبيل المثال، الاتفاق النووي) لإجبار “مجلس صيانة الدستور” على الموافقة على مرشحيهم، لكنهم الآن في حالة من اليأس. فقد كان ترشيح حسن الخميني، حفيد مؤسس الجمهورية الإسلامية، رمزاً لرغبتهم في تغيير المعادلة في “المجلس” والتأثير على عملية الخلافة، إلا أن عدم تمتعه بالمؤهلات اللازمة قد برهن عن تصميم المتشددين على المحافظة على احتكار جميع عمليات اتخاذ القرار من هذا القبيل.
عملية خلافة دون أي نموذج
على الرغم من أن الجمهورية الإسلامية تشمل عملية قانونية واضحة لتعيين المرشد الأعلى، إلا أنه لا يتم أبداً اتباع تلك الخطوات. فقد كان الخميني زعيماً ثورياً يتمتع بجاذبية تولى منصبه بشكل طبيعي من دون أي قرار مؤسساتي. وبعد أن تم تعيين آية الله حسين علي منتظري رسمياً كخلف له، خاض الخميني نزاعاً مريراً معه وألغى التعيين قبل شهرين فقط من موته في عام 1989، وهو القرار الذي لا يحق سوى لـ “مجلس خبراء القيادة” أتخاذه وفقاً الدستور.
وقد تم تعيين آية الله خامنئي على أسس متزعزعة بالقدر نفسه. ففي البداية عينه “المجلس” خلفاً في الوقت الذي نص الدستور على أن المرشد الأعلى يجب أن يكون “مرجعاً”، أي آية الله العظمى الذي يتمتع بعدد كبير من الأتباع ويعتبر “مثالاً يُقتدى به”. ولم يكن خامنئي يتمتع بهذه الخصائص، وبالتالي توجب على “المجلس” إعادة تعيينه بعد ثلاثة أشهر، أي بعد إلغاء شرط “المرجع” من الدستور وبعد أن تمت الموافقة على الميثاق المعدل من قبل مجلس رقابة وعبر استفتاء وطني.
ما يمكن توقعه من الخلافة القادمة
في مذكراته المنشورة عام 1989، أشار أكبر هاشمي رفسنجاني، وهو شخصية بارزة في النظام، إلى أن رؤساء الفروع الثلاثة في الحكومة كانوا يعقدون اجتماعات خاصة بشكل منتظم مع أحمد الخميني، وهو ابن المرشد الأعلى وطرف سياسي كبير، بغية مناقشة موضوع الخلافة قبل عدة أشهر من وفاته. وفي المقابل، عين “مجلس خبراء القيادة” خامنئي في جلسة واحدة لم تستغرق سوى بضع ساعات، مما يشير إلى أن عدد قليل من شيوخ النظام قد تداولوا بالفعل في اتخاذ القرار خارج “المجلس” ولبعض الوقت.
أما اليوم، فمن المرجح أن تكون عملية التعيين أكثر تعقيداً. ففي عام 1989، ساعد مزيج من العوامل، من بينها زعامة الخميني الجذابة، وحرب الثماني سنوات مع العراق (حرب الخليج الأولى)، والعمليات الداخلية للجماعات المسلحة المعارضة، على تغذية حماسة أيديولوجية معينة بين مراكز السلطة المختلفة في إيران، وعلى تهميش العوامل المسببة للخلاف مثل الدوافع الاقتصادية والأنانية، والحفاظ على السلطة السياسية المدنية. وعلى الرغم من تورط النظام العميق في المواجهات العسكرية بين إيران وأعداء محليين وأجانب، واتخاذ قرارات سياسية من قبل المدنيين، كان «فيلق الحرس الثوري الإسلامي» خاضعاً تماماً لدوائر السلطة المدنية. بالإضافة إلى ذلك، فإن العديد من الأشخاص الذين يحملون لقب آية الله العظمى مثل أبو القاسم الخوئي ومحمد رضا الكلبايكاني وشهاب الدين المرعشي النجفي كانوا لا يزالون على قيد الحياة، كما تمتع رجال الدين بالاستقلال النسبي الموروث من عهد ما قبل الثورة.
إلا أن الخريطة السياسية قد تغيرت تماماً منذ ذلك الحين. فـ «الحرس الثوري» هو الآن عبارة عن تركيبة عسكرية وسياسية وثقافية واجتماعية تتمتع بشبكة وطنية موازية للشبكة الدينية، على سبيل المثال، نشهد تواجد لقاعدة ميليشيا “الباسيج” التابعة لـ «الحرس الثوري» بجوار كل مسجد تقريباً. هذا ويسيطر «الحرس الثوري» بشكل مباشر أو غير مباشر على جزء كبير من الاقتصاد الإيراني. وعلى الرغم من تمكن «الحرس» من المحافظة على اتحاده ظاهرياً تحت قيادة خامنئي، إلا أن انتشاره الواسع قد ولد فصائل مختلفة ذات مصالح متعارضة في بعض الأحيان. وعند وفاة خامنئي، سيستخدم «الحرس الثوري» جميع الوسائل الممكنة للتدخل في تعيين خلفه، ولكن السياسة الطائفية قد تؤدي إلى صراع داخل «الحرس». فإذا حافظ «الحرس الثوري» على وحدته بعد خامنئي وعزز بسرعة من قيادته الداخلية، من المرجح أن يكون الانتقال إلى المرشد الأعلى الجديد سلساً. إلا أن أزمة خانقة داخل «الفيلق» قد تعرض استقرار النظام السياسي برمته للخطر.
وبصرف النظر عن «الحرس الثوري» الإيراني، فإن بعض مراكز السلطة الأخرى ستكون قادرة على المشاركة في قرار الخلافة. إذ إن الشخصيات السياسية الكبرى وتلك التي تحدد الأيديولوجيات والاستراتيجيات، والقادة الآخرين الذين حشدوا المواطنين أثناء العقد الأول من عمر الجمهورية الإسلامية قد تم تهميشهم منذ ذلك الحين. فقد تم إنشاء العشرات من المؤسسات السياسية الجديدة في عهد خامنئي، والكثير منها ذات وظائف متوازية، لذلك تم تقويض دورها العام؛ وقد قسّم المرشد الأعلى المجال الكبير إلى مجالات أصغر لكي يتمكن من السيطرة بسهولة أكبر على مؤسسات معينة، والتسامح في الوقت نفسه مع احتمالات قيام معارضة من قبل الآخرين. وبالتالي، فإن أي من الأفراد الأقوياء أو الدوائر القوية التي تسعى للتأثير على عملية الخلافة قد لا يتمتع بالحظ، لأنهم جميعاً يفتقرون إلى الوسائل غير الرسمية للتأثير على القرار بشدة من تلقاء نفسهم كما تم استبعادهم من الوسائل الرسمية (أي “مجلس قيادة الخبراء”).
أما بالنسبة إلى الشخص الذي سيصبح المرشد الأعلى القادم، فإن التخمين محفوف بالمخاطر في هذه المرحلة. إذ يتردد أن مجتبى، أحد أبناء خامنئي، سيكون مرشحاً محتملاً، لكنه يفتقر إلى المؤهلات الدينية والسياسية. فقد كان متردداً في الظهور إلى العلن، وقد تشكلت سمعته بين معظم الإيرانيين بارتباطه الشهير بقوات “الباسيج” وأجهزة الاستخبارات. بالإضافة إلى ذلك، فإن طبيعة النظام الثورية والمناهضة للملكية لا تشجع عملية التوريث.
ولا بد من الإشارة إلى أن أي أسماء أخرى مطروحة هي أيضاً محض التخمين. فما هو أكثر أهمية من هوية المرشد الأعلى القادم أو شخصيته هو أنه سيبدأ ولايته بناءً على اختيار السلطات القوية، لذلك سيكون على الأرجح مديناً لـ «الحرس الثوري الإسلامي» وجهاز الاستخبارات والسلطة القضائية، أكثر مما تدين هذه الأطراف به إليه. وبعبارة أخرى، فإن أبناء خامنئي المؤسساتيين سيشكلون الإخوة المؤسساتيين الأكبر للزعيم القادم، فيحمونه وربما يسيطرون عليه أيضاً.
مهدي خلجي
معهد واشنطن