الأزمة الاقتصادية التي يمر بها العراق ليست طارئة ولن تمر من دون إجراءات جذرية جريئة تعيد بناء الاقتصاد العراقي على أسس عصرية. الإجراءات المقصودة قد لا تبدو اقتصادية في ظاهرها لكنها أساسية لوضع البلد على سكة التطور.
الإجراء الأساسي الأول هو تحصين الحريات الشخصية التي منحها الدستور والمواثيق الدولية للمواطن العراقي والضرب بيد من حديد على كل من يسيء إليها أو يعتدي على ممارسيها، فرداً كان أم جماعة. الحريات الشخصية ليست محترمة دائماً في العراق وهناك من يجيز لنفسه أن يفرض رأيه أو عقيدته، دينية كانت أو عشائرية أو ثقافية، على الآخرين في أول فرصة تتاح له. انتهاك كهذا يجب أن يعاقب عليه القانون، ليس فقط من أجل حماية الحريات، وهذا واجب الحكومة، ولكن من أجل فرض هيبة الدولة وسطوة القانون على الجميع. يجب أن يُعامل انتهاك القانون على أنه جريمة ويجب ألا تغض السلطات الطرف عنه لمجرد أنه يُرتكب باسم الدين أو المذهب أو الأعراف.
الاعتداءات تتكرر على الأطباء، تارة بقوة السلاح وأخرى عبر الابتزاز باسم العشيرة، لكن الحكومة قلما تتدخل لحمايتهم، ما دفع كثراً منهم لمغادرة البلد، خصوصاً أن بإمكان الطبيب العمل في أي بلد في العالم. كما حصلت اعتداءات على موظفي شركات أجنبية باسم الدين وصمتت الحكومة عن مرتكبيها. في معظم المطارات العراقية تتدخل عناصر الشرطة في شؤون المسافرين الداخلية وتصادر مقتنياتهم المسموح بها قانوناً، بحجة مخالفتها الدين أو الأعراف، وقد تجد هذه المواد طريقها إلى الأسواق لتباع لمصلحة مصادريها! الحرية الشخصية أحد أهم دعائم الاقتصاد الحديث وتجب حماية هذه الحريات بقوة القانون، كما يجب أن تعلن الدولة اهتمامها بتطبيق القانون وإن كانت هذه الحريات لا تروق للبعض.
الإجراء الثاني هو تمكين القضاة من أداء عملهم وتنقية الجهاز القضائي من الفاسدين وغير الأكفاء ممن يلجأون إلى حبس المتهم أثناء التحقيق معه من دون أن يثبت ارتكابه أي مخالفة. الإجراء الذي اتخذه مجلس القضاء الأعلى أخيراً بعدم قانونية حبس أي متهم قبل إجراء تحقيق إداري يدينه، مفيد لكنه ليس كافياً. هناك موظفون ومسؤولون كثيرون حُبِسوا ومُنِعوا من السفر أو مُنعوا من أداء وظائفهم من دون أن تثبُت ضدهم أي مخالفة. وبحسب رئيس اللجنة القانونية في البرلمان العراقي، القاضي محمود الحسن، فإن 97 في المئة من القضايا التي أحيلت إلى هيئة النزاهة، رُدَّت ولم تؤدِّ إلى إدانة المتهمين بها، ما يعني أن حجم الأخطاء (أو التخريب) في هذا الجهاز هائل، ومن الخطأ الإبقاء على هيئة النزاهة والأذرع التابعة لها، لأنها تسببت في تعطيل أعمال الدولة ولم تمنع الفساد. فالعراق ما يزال بين البلدان الأكثر فساداً في العالم. 97 في المئة نسبة خطيرة جدا ويجب أن تُقْلِق المسؤولين وتدفعهم إلى إيجاد معالجة عاجلة.
الإجراء الثالث هو زيادة صلاحيات الموظفين في الدولة كي يستطيعوا إنجاز أعمالهم من دون الرجوع إلى المسؤول الأعلى، وهذا من شأنه أن يقلّص البيروقراطية ويسرِّع في إنجاز الأعمال والمعاملات ويقلص الفساد. معظم الصلاحيات محصور حالياً في يد الوزير أو من يخوله، ويحتاج من هم دونه أن يرجعوا إليه في معظم الأمور، حتى العادية منها، وهذا يجمِّد طاقاتِهم ويعيق اكتسابَهم أي خبرة، كما يؤخر إنجاز الأعمال ويضع عبئاً كبيراً على المسؤول الأعلى ويعرضه للخطأ.
الإجراء الرابع هو تقليص عدد العطل الرسمية وغير الرسمية ومحاسبة كل من يتخلف عن العمل بحجج لم تعد خافية. الالتزامات الدينية والثقافية قضايا شخصية، ومن يريد أن يمارسها عليه أن يتحمل ذلك شخصياً ولا يتوقع أن تمول الدولة نشاطاته وهواياته. المال العام مقدس أيضاً وواجب الاحترام.
الإجراء الخامس هو رفع القيود عن سفر مواطني الدول المستقرة الذين لا يشكلون خطراً على الأمن الوطني. هذا الإجراء سائد في معظم بلدان العالم، بما فيها الدول العربية، ومن شأنه أن يسهل سفر مواطني البلدان الغنية إلى العراق للسياحة أو العمل أو الاستثمار وينمّي الاقتصاد ويجلب العملة الصعبة ويدفع القطاع الخاص إلى الاستثمار في قطاع الخدمات، ما يوفر وظائف للعاطلين. إجراءات السفر في المطارات العراقية، خصوصاً مطار بغداد، بحاجة إلى مراجعة عاجلة، لأنها تعيق السفر ومعظمها غير ضروري، كما أن التنقل من المطارات وإليها ما يزال متعِباً بسبب التشدد الأمني الفائض عن الحاجة. من السهل جداً إنشاء مترو خاص بالمطار تتوافر فيه السرعة وإجراءات السلامة، وبالإمكان أن يُعهد بإنشائه إلى شركة أجنبية ويعهد بإدارته إليها لفترة من الزمن لتستوفي مستحقاتها من إيراداته.
الإجراء السادس هو تشجيع عودة الكفاءات العراقية المهاجرة. هناك ما يقارب الستة ملايين عراقي يعيشون في أوروبا وأميركا والأردن ومصر وتركيا وإيران والخليج، وكثير من هؤلاء لديهم خبرات نادرة ورؤوس أموال، وبإمكانهم المساهمة في تطوير البلد، لكنهم غير قادرين حالياً، بسبب البيروقراطية والفساد. العمل في العراق حالياً ليس مجزياً مادياً، ناهيك عن المشكلة الأمنية، ولكن يمكن إنشاء صندوق لدعم عودتهم يُموَّل عبر التبرعات الدولية أو الوطنية، وبذلك تتجنب الدولة التمييز بين مواطنيها بدفع أجور أكبر لبعضهم. وبإمكان الحكومة أن تشجع الشركات العاملة في العراق للتبرع لهذا الصندوق عند منحها عقود عمل. مستشفيات العراق وجامعاته ومصانعه ومدارسه ومؤسساته بأمسّ الحاجة إلى هذه الخبرات، وهذا الصندوق سيساعد على إعادتها.
الإجراءات أعلاه لا تكلف الدولة شيئا يُذكر ويمكن البدء بتنفيذها خلال فترة قصيرة ما يؤسس لنهضة اقتصادية واجتماعية وعمرانية حقيقية. لكن اتخاذ هذه الإجراءات يتطلب جرأة وحزماً ورؤية واضحة وصادقة للمستقبل، وقد لا تكون هذه الأمور متوافرة حالياً لدى الحكومة، وإن وُجِدَت عند البعض فإنها غائبة أو لا تشكل أولوية عند آخرين. بعضهم يرغب في بناء اقتصاد حديث لكنه مازال أسيراً لأفكار بالية لم تعد تصلح للإدارة أو السياسة في عصر القرية الكونية، وما لم يتحرر هؤلاء من أوهامهم فإنهم سيبقون عاجزين عن إدارة دولة حديثة. الاستجابة الكاملة لمتطلبات العصر كفيلة بحل مشاكل العراق، وما لم يدرك قادة العراق ذلك فإن الزمن سوف يتجاوزهم والناس يتخلون عنهم بسرعة قد تفاجئهم.
حميد الكفائي
صحيفة الحياة اللندنية