مثل استمرار الدعم الإيراني لنظام الرئيس السوري بشار الأسد، بجانب سيطرة الأخير على المناطق الساحلية في دمشق وطرطوس واللاذقية، والتي لا تزال تحتفظ بقدرات إنتاجية زراعية وصناعية محدودة، عاملين مهمين في ترجيح عدم الانهيار التام للاقتصاد السوري خلال المرحلة الماضية، وهو ما مكن النظام من الاستمرار في دفع رواتب الموظفين العموميين وتقديم الخدمات العامة من كهرباء واتصالات وغيرها في المناطق التي يسيطر عليها. ولكن ذلك لا ينفي في الوقت نفسه أن الاقتصاد فَقَدَ كثيرًا من طاقته الإنتاجية عبر السنوات الماضية نتيجة الخسائر المتزايدة التي لحقت بالبنية التحتية للبلاد بجانب رأس المال البشري.
وعلى ضوء ذلك، ربما يمكن القول إن تماسك الاقتصاد السوري سيظل، إلى حدٍّ كبير، مرهونًا بالدعم الاقتصادي والعسكري الذي يتلقاه النظام من الحلفاء الرئيسيين، علاوةً على نجاحه إما في صد الهجمات ضد المناطق الاقتصادية الآمنة، أو تمكنه من استعادة بعض المدن الاقتصادية الرئيسية بالبلاد.
محددات الصمود:
تدهور الاقتصاد السوري بشدة طيلة الأعوام الأربعة الماضية مع تصاعد حدة المعارك العسكرية في كافة المحافظات السورية باستثناء الشريط الساحلي الأكثر أمانًا الآن. وبالتحديد، بلغت خسائر الناتج المحلي الإجمالي السوري ما يقارب 120 مليار دولار خلال الفترة من عام 2011 إلى عام 2014، أى ما يعادل 229% من الناتج المحلي الإجمالي لعام 2010 البالغ حينها تقريبا 60 مليار دولار.
ورغم التدهور الملحوظ آنفًا، فإن النظام السوري استطاع بصعوبة الحفاظ على بعض القدرات الإنتاجية الزراعية والصناعية المحدودة بفضل سيطرته على المناطق الساحلية بالبلاد (وهي دمشق، واللاذقية، وطرطوس)، والتي تُوازي أقل من ثلث مساحة البلاد. واللافت في هذا السياق، هو أن سيطرة النظام على المنافذ البحرية للبلاد مكنته بسهولة من التبادل التجاري مع العالم، أو على أقل تقدير مع الحلفاء الرئيسيين (روسيا وإيران تحديدًا)، بما يعني أن سوريا، رغم الحرب، لا تزال تؤسس علاقات تجارية مع العالم الخارجي. وفي هذا الصدد، تشير إحصاءات صندوق النقد الدولي، إلى أن حجم التبادل الخارجي بلغ 31.9 مليار دولار في عام 2014، وهو أقل بطبيعة الحال من مستوى عام 2010 البالغ 42.8 مليار دولار. ولكن يُشار أيضًا إلى أن الحدود المفتوحة مع دول الجوار، وخاصة العراق، سمحت لسوريا بتجارة دون قيود جيوسياسية معها.
إلى جانب ذلك، كانت المساعدات الاقتصادية التي لا تزال تتدفق على النظام السوري من روسيا وإيران عاملا رئيسيًّا في تأمين احتياجاته المتزايدة من النفط والحبوب. وفي المجمل، تلقى النظام ما يقارب 6 مليارات دولار سنويًا من إيران بحسب المبعوث الخاص للأمم المتحدة بسوريا، ستيفان دي ميستورا. علاوة على ذلك فقد أمّنت روسيا بشكل لافت محصول القمح، ففي نوفمبر 2015، تلقى النظام 100 ألف طن من القمح كمنحة من روسيا. وبالطبع، فإن المنح المالية والغذائية التي يتلقاها السوريون داخل البلاد والذين بحاجة لمساعدة إنسانية (وهم قرابة 13.5 مليون شخص) خففت، إلى حد ما، من الأعباء المالية التي يتحملها النظام، وهو ما يتوازى مع تعهد مؤتمر المانحين، الذي عقد بلندن، بتقديم 10 مليارات دولار بحلول عام 2020 لتلبية احتياجات السوريين.
متغيرات داعمة:
ربما يمكن القول إن نجاح النظام السوري في تحقيق التماسك المحدود للاقتصاد سوف يعتمد على المتغيرات التالية:
1- الاعتماد المتبادل: ففي الوقت الذي يدعي فيه النظام السوري أنه يحارب التنظيمات الإرهابية على غرار تنظيم “داعش” و”جبهة النصرة”، فإنه يُجري معاملات اقتصادية مكثفة معها. فكما تُشير العديد من الشواهد، يؤمّن النظام احتياجاته من النفط والمحاصيل الرئيسية كالقمح والشعير من المناطق التي يسيطر عليها تنظيم “داعش” في الحسكة والرقة. فيما تشير تقارير عديدة أيضًا إلى أن النظام السوري يورد منتجات صناعية إلى مناطق سيطرة التنظيم. وفي هذا الصدد، يقول آدم زوبين وكيل وزارة الخزانة الأمريكية في تصريحات سابقة، إن النظام السوري يحصل شهريًّا على مبيعات نفط من التنظيم بقيمة 40 مليون دولار. ومن دون شك، فإن ما قد يرجح استمرار هذه العلاقة البراجماتية التي يتسم بها تنظيم “داعش”، والذي يرغب في الحصول على موارد مالية أيًّا كانت مصادرها.
2- طبقة منتفعة: ترتبط الشواهد السابقة بحقيقة هامة، وهي أن الوضع الاقتصادي المتأزم للبلاد أدى إلى ظهور طبقة جديدة من رجال الأعمال تنتفع من تسهيل حركة التجارة بين مناطق النظام والمعارضة، وقد فرض الاتحاد الأوروبي عقوبات على بعضم في مارس 2015، بسبب دورهم في الوساطة بين النظام و”داعش” في شراء النفط.
3- المناطق الآمنة: يروّج النظام السوري إلى أن الخريطة الاقتصادية للبلاد يُعاد تشكيلها جديًّا في ظل الدمار الذي لحق بالمناطق التي يُسيطر عليها تنظيم “داعش” أو قوى المعارضة، حيث تتجه الأنشطة الاقتصادية للمناطق الساحلية بعيدًا عن مناطق النزاع غير الآمنة. ويدعم الرواية السابقة إعلان الحكومة السورية تقديم تسهيلات كبيرة للمصانع التي تنقل أنشطتها للمدن الساحلية. وفي واقع الأمر، وكمبادرة أخرى في هذا الاتجاه؛ أعلنت الحكومة السورية في عام 2014 عن إنشاء منطقتين صناعيتين جديدتين في محافظة اللاذقية لاستيعاب المنشآت الصناعية بالمناطق غير الآمنة بسوريا. ولكن على أية حال، تظل هذه الخطوة صعبة التنفيذ في ظل خروج كثير من رجال الأعمال السوريين نحو بيئات استثمارية آمنة خارج سوريا، لا سيما في تركيا والأردن ولبنان.
4- خفض الأعباء المالية: استمر النظام السوري طيلة الأعوام الماضية في رفع أسعار الخدمات الرئيسية كالكهرباء والاتصالات، بجانب السلع المدعومة كالمازوت والقمح، من أجل تخفيف الأعباء المالية. ومن ضمن سلسلة متواصلة لارتفاع أسعار الخدمات والموارد الأساسية، رفعت الحكومة السورية، في أكتوبر 2015، سعر ربطة الخبز من 0.159 دولار إلى 0.227 دولار، وحددت سعر أسطوانة الغاز المنزلي وزن 10 كيلو بنحو 8.1 دولارات بدلا من 7.2 دولارات سابقًا، كما رفعت سعر لتر المازوت لنحو 0.614 دولار بدلا من 0.591 دولار. وتسببت هذه الخطوات، بجانب انخفاض قيمة العملة السورية إلى أكثر من 80% من قيمتها منذ عام 2011، في ارتفاع الأسعار بنسبة بلغت 173% خلال الفترة من عام 2010 إلى عام 2013.
5- إعادة الإعمار: حظى ملف إعادة إعمار المناطق المدمرة، في عدة مناسبات، باهتمام الحكومة السورية، ومن أجل جذب الاهتمام الدولي، لا سيما الروسي والإيراني بهذا الملف، عقدت الحكومة السورية مؤتمرًا دوليًا تحت شعار “سوريا إلى إعادة الاعمار” في أبريل 2015، وسبقه بشهور تنظيم “معرض إعادة إعمار سوريا” في نوفمبر 2014. وحقيقة الأمر إن الملف السابق لم يحظ باهتمام حقيقي داخل الموازنة السورية الحالية، حيث تم تخصيص 50 مليار ليرة سورية فقط، أى ما يعادل 0.227 مليار دولار، وهو ما لا يفي، على أية حال، بالمتطلبات الكبيرة لإعادة بناء البنية التحتية للمناطق المدمرة. فيما لا يبدو ممكنًا أيضًا أن تحصل سوريا على استثمارات من حلفائها من أجل إعادة الإعمار في ظل ظروف غير آمنة لجميع المستثمرين.
مقاومة أم انهيار:
حتى مع العلم بأن الدعم الخارجي للنظام السوري مستمر، فهذا ربما لن يكون شرطًا كافيًا لآفاق واعدة للاقتصاد السوري، ففي أغلب الأحوال فإن استمرار المواجهات العسكرية بين النظام وقوى المعارضة يُثبط الجهود الدولية لبرامج إعادة الإعمار من ناحية، ويضعف القدرات الإنتاجية والأصول الاقتصادية، ويزيد من عدم القدرة على جذب استثمارات جديدة من ناحية أخرى.
فواقع الأمر، إن الاقتصاد السوري ما زال يخضع لاستنزاف متزايد مع ارتفاع تكلفة الحرب، والتدمير الممتد على صعيد البنية التحتية للبلاد ورأس المال البشري. ويمكن القول إن خسائر الاقتصاد السوري تتبع رمزيًّا متوالية هندسية وليست عددية. وكما يُشير البنك الدولي فإن الاقتصاد السوري سيهبط مجددًا بنسبة 16% في عام 2016، وهو ما يعني واقعيًّا مزيدًا من تدهور الاقتصاد السوري، ولكن على أية حال سيبقى استمرار سيطرة النظام على المناطق الساحلية الرهان الرئيسي له بفضل استمرار الدعم العسكري الروسي والإيراني، وربما يساعده هذا التمركز في الانطلاق نحو تحرير بعض المدن الاقتصادية كحلب وإدلب.
خلاصة القول، ربما يُعطي الدعم الخارجي للنظام السوري بجانب ضمان السيطرة على بعض الأصول الاقتصادية بالمناطق الساحلية، حيزًا من الوقت لاستمرار التماسك المحدود للاقتصاد، ولكن يرتبط هذا الرهان أيضًا بعدم تدخل أطراف دولية ضد النظام خلال المرحلة القادمة.
المركز الإقليمي للدراسات الاستراتيجية