خلال الأعوام الثلاثين الماضية، تكررت ثلاث مرات عملية انتخاب «مجلس شورى» إسلامي جديد في إيران، وفي كل مرة لقيت العملية الترحاب باعتبارها انتصاراً لرئيسٍ يسعى إلى الإصلاح، ويخوّله على ما يبدو إجراء التغييرات التي يطمح إليها. ولكن في الحالتين السابقتين، أولهما الانتخابات البرلمانية التي أجريت في عهد الرئيس أكبر هاشمي رفسنجاني عام 1992 وثانيهما في عهد الرئيس محمد خاتمي عام 2000 – لم تكن النتيجة مبهرة، فقد واصلت طهران نزعتها السياسية المغامرة في الخارج وانتهاكاتها لحقوق الإنسان في الداخل. فهل ستثبت الانتخابات الأخيرة أنها تختلف عن سابقاتها؟
الاحتفال قبل الأوان بانتصار الاعتدال في الماضي
في العاشر من أيار/مايو 1992، ومع انتهاء الجولة الحاسمة للانتخابات البرلمانية الإيرانية، أعلنت صحيفة “نيويورك تايمز” أن نتائج الانتخابات تمنح الرئيس رفسنجاني “الدعم الكافي للوقوف بوجه خصومه السياسيين وتطبيق سياساته المتمثلة بالانفتاح على الغرب وتحرير الاقتصاد الإيراني”. وكانت الصحيفة قد أصدرت قبل ذلك بثلاثة أسابيع مقالاً تحت عنوان “رفسنجاني يرسم تصوّراً لإيران معتدلة وحديثة”، جاء فيه أن “اللقاءات التي أجريت مع أشخاص مقرّبين قبل [الانتخابات] وبعدها أوضحت أن الهدف الأكثر إلحاحاً لدى السيد رفسنجاني هو إقناع العالم بأنه زعيم ناضج وأهلٌ للثقة لأمة حيوية مهيأة للاستثمار والقروض الخارجية”.
لكن ما فعله الرئيس رفسنجاني بهذا التفويض هو تنفيذ عمليات اغتيال ضد المنشقين الإيرانيين في أوروبا وإطلاق برنامج دورة الوقود النووي في إيران (بما في ذلك تخصيب اليورانيوم) ورعاية الهجمات الإرهابية الهادفة إلى نسف عملية السلام بين العرب والإسرائيليين. وعلى الصعيد الداخلي، أصيب الاقتصاد بحالة من الركود بسبب عجز إيران عن تسديد الديون الأجنبية الهائلة التي كدّستها، مما أرغمها على إعادة جدولة سيل الديون بشكل يدعو للخجل وإجراء تخفيضات حادة في الإنفاق الحكومي. واتضح أن مشروع رفسنجاني لإيران لم يختلف كثيراً عن مشروع أسلافه، وليس من قبيل المفاجأة أن يكون الأمر على هذا المنوال، نظراً إلى المكانة المهمة التي شغلها في هيكل السلطة حتى قبل توليه منصب الرئاسة. ومع أنه عمد لسنوات إلى لوم أعضاء «المجلس» المتشددين على الوقوف في طريقه، إلا أن مخططاته لم تكن في الواقع مختلفة عن مخططاتهم.
وعلاوةً على ذلك، تبين أن «مجلس الشورى» المنتخب في عام 1992 كان ذا نزعة محافظة حادة بدلاً من إصلاحية. فمعظم أعضائه الجدد كانوا أكثر تقليديةً من الثوريين الذين حلوا محلهم، ومعادين للغرب بقدر أسلافهم، إلا أن عدائهم كان ذا نكهة مختلفة لا أكثر.
لذلك، وإذ شعر الناخبون الإيرانيون بالقرف من الركود الاقتصادي والعزلة السياسية، فقد تهافتوا بكثرة لدعم المرشح الرئاسي الإصلاحي محمد خاتمي عام 1997. وعلى الرغم من أنه كان يتجادل مراراً وتكراراً مع «مجلس الشورى» خلال السنوات الأولى من ولايته، إلا أنه عُقدت آمالاً كبيرة على الانتصارات التي حققها الإصلاحيون في الانتخابات البرلمانية عام 2000. وفي هذا السياق كتبت صحيفة “نيويورك تايمز” أنه “في لغة اتسمت بجرأة غير معهودة، رحّبت إدارة الرئيس كلينتون بنتائج الانتخابات الإيرانية اليوم وقالت أنها تعتبرها مطلباً واضحاً وقاطعاً [لقيام] حرية أكبر في البلاد وتحسين العلاقات مع الخارج”. وعلى النحو ذاته، وصف المتحدث باسم وزارة الخارجية الأمريكية جيمس روبن تلك النتيجة “بحدث ذات أبعاد تاريخية”، فيما تهللت افتتاحية “نيويورك تايمز” معلنةً أن “الثورة السلمية ضد القمع الذي يمارسه رجال الدين في إيران منذ ثلاث سنوات مع انتخاب محمد خاتمي بدأت تزداد زخماً… ومن شأن التحالف بين الغالبية الإصلاحية في البرلمان والسيد خاتمي أن يضعف قبضة رجال الدين المُحكَمة على المؤسسات السياسية في إيران ويتيح للرئيس الوفاء بوعوده ببناء مجتمع قائم على التسامح وسيادة القانون”.
ولكن لا نتائج «مجلس الشورى» ولا إعادة انتخاب خاتمي بغالبية ساحقة في عام 2001 غيّرت معادلة السلطة الأساسية لـ الجمهورية الإسلامية. فالنظام القضائي و «الحرس الثوري الإسلامي»، الواقعان تحت السيطرة المحكمة للمرشد الأعلى علي خامنئي كانا يقفان بطريق خاتمي في كل منعطف. وبالفعل، لم تمضِ أشهر على إعادة انتخاب خاتمي حتى قامت إيران بإيواء زعماء تنظيم «القاعدة» الذين كانوا قد هربوا من القوات الأمريكية في أفغانستان وصعّدت من أنشطتها النووية السرية في انتهاك لالتزاماتها بموجب معاهدة [عدم الانتشار]. وتَرافق ذلك مع تسارع وتيرة قمع المعارضة الداخلية حيث قام القضاء بإغلاق أكثر من عشرين دار نشر في غضون عشرة أسابيع، ليضع بذلك حداً لحرية الصحافة المحدودة التي كان خاتمي قد فتح المجال أمامها. وفي الوقت نفسه، إن «مجلس صيانة الدستور» قد منع البرلمان من الإشراف على أنشطة الجيش ومختلف وسائل الإذاعة والتلفزيون التابعة للدولة ونظام المدّعين العامين والسجون القائم بموازاة النظام القضائي.
ما يعنيه «المجلس» الجديد
من المفيد النظر إلى الأعضاء الجدد في المجلس التشريعي المقبل لفهم ما إذا كان هذا «المجلس» سيغير السياسة الإيرانية. وحتى الآن، لا توحي المواقف السياسية للأعضاء المنتخبين بالطمأنينة، فقلّةٌ من المرشحين الفائزين – إن وجدوا- اقترحوا تغيير برنامج الصواريخ الإيراني، أو المسار الذي تسلكه إيران بدعم المجازر التي ترتكب في سوريا، أو إمداد الإرهابيين في دول الخليج وغزة بالقنابل، أو سجن رموز المعارضة الذين طعنوا في الانتخابات الرئاسية المثيرة للجدل التي أجريت في عام 2009، أو إعدام السجناء في ما يعتبر أعلى معدل إعدام للفرد في العالم. بل على العكس، فالعديد من الأعضاء الذين يدّعون الاعتدال أيّدوا بفاعلية بعض تلك السياسات أو كلها، مع العلم بأن تصرفاتهم السابقة غالباً ما كانت أسوأ من ذلك. ونذكر على سبيل المثال لائحة المرشحين الرئيسية التي رُوّج لها على أنها معتدلة – وعُرفت بـ”لائحة الأمل” – وتضمنت كلاًّ من كاظم جلالي وبهروز نعمتي اللذين يعتبران نفسيهما جزءاً من كتلة المحافظين المتشددين ولهما تاريخ حافل في توجيه الانتقادات اللاذعة للمعترضين على انتخابات عام 2009.
وفي المقابل، ثمة عامل آخر يحول دون حدوث التغيير، وهو أن غالبية «مجلس الشورى» ستبقى على الأرجح كما كانت عليه من قبل. فمع أن المقاعد الثلاثين المنتخبة لمحافظة طهران الأساسية قد حظيت باهتمام بالغ، إلا أن المقاعد الأخرى في البلاد والتي يبلغ عددها 260 مقعداً هي التي ستهيمن على «المجلس». ويقيناً، أن النتائج النهائية لتلك المقاعد لم تصدر بعد لا سيما وأن 68 منها تتطلب إجراء انتخابات إعادة. إلا أنه من الواضح أن قلّةً من هذه المقاعد ستؤول إلى أعضاء سابقين أو مرشحين ذي توجهات مماثلة. وعلى الرغم من أنه لم يتم انتخاب البعض من أسوأ المتشددين – ما يدعو فعلاً للاحتفال – إلا أن أولئك الذين يطبقون المشروع الثوري بفعالية أكبر لم يبارحوا مكانهم. على سبيل المثال، إن عدد قليل من الفائزين – إن وُجدوا – عارضوا علناً الاتفاق النووي، وهذا ليس بالأمر المستغرب نظراً إلى الذهنية السائدة لدى الشعب والتداعيات السياسية المحتملة التي قد تترتب عن إبداء معارضة صريحة. وفي المقابل، اتخذوا موقفاً أكثر دقة، حيث شدد العديد منهم على ضرورة أن تكون إيران مستعدة للتخلي عن الاتفاق إذا لم يرتق الغرب إلى مستوى التزاماته، وهو ما شككوا فيه بقوة.
ولكن حتى وإن حظيت حكومة روحاني بالدعم الكامل من «مجلس الشورى» – وهو أمر مشكوكٌ فيه – سيبقى محور السلطة الحقيقية في يد المؤسسات الثورية. فمكتب خامنئي المعروف باسم “بيت” خامنئي ضالعاً بعمق في تفاصيل القرارات الحكومية فلا يتردد في استخدام صلاحياته بطلاقة لإبطال أي إجراءات غير مناسبة تتخذها الحكومة وتقرير التعيينات في أهم المناصب. وهو الأمر بالنسبة لـ «الحرس الثوري»، فهو مكلّف في الدستور “بحماية الثورة”، ولذلك اضطلع منذ مدة طويلة بدور ريادي في أي قطاع يراه ملائماً لتلك المهمة الكبيرة بما في ذلك الأمن الداخلي والشؤون الاقتصادية.
وأخيراً، حتى مع افتراض أن يتمكّن روحاني من تطبيق مشروعه بالكامل، ليس واضحاً مدى التغيير الذي قد يعنيه ذلك بالنسبة للقضايا التي تهم الغرب أكثر من سواها، على الأقل الآن بعد إبرام الاتفاق النووي. فقد كان روحاني من رجالات هذا النظام لعقود من الزمن، إذ كان عضواً في “مجلس الدفاع الأعلى” في فترة الحرب بين عامي 1982 و 1988، ثم عمل سكرتيراً عاماً لـ “المجلس الأعلى للأمن القومي” بين عامي 1989 و 2005. وخلال هذه الفترة الأخيرة لم يكن “المجلس” مسؤولاً عن توجيه البرنامج النووي للنظام الإيراني فحسب، بل تولى توجيه رعاية هذا النظام للإرهاب بدءاً من الدعم الهائل الذي يقدمه لـ «حزب الله» والميليشيات العراقية السفّاحة وصولاً إلى تعاونه المحدود مع أسامة بن لادن. وبعبارة أخرى، قد لا تدور خلافات روحاني مع المتشددين حول الأهداف بقدر ما تدور حول الطريقة الفضلى لتطبيق الرؤية المشتركة بينهم حول توسيع نطاق النفوذ الإيراني والتصدي للغرب.
وينطبق الأمر نفسه على الداخل الإيراني حيث لم يبذل روحاني جهوداً تذكر في سبيل تحقيق المشروع الإصلاحي الذي أمل به الكثيرون من مناصريه في عام 2013. فبعد كثرة الكلام خلال حملته الرئاسية عن استقطاب الخبرات والاستثمارات الأجنبية إلى قطاع النفط، استغرق الفريق التكنوقراطي الجديد في وزارة النفط أكثر من عامين لعرض مشروع “عقد النفط الإيراني” على «مجلس الشورى»، الذي لم يتم اعتماده حتى اليوم. وكما أقر روحاني، سارت المعركة ضد الفساد المتأصل بعمق بوتيرة بطيئة في أحسن الأحوال، في حين أن السياسات الاجتماعية والثقافية بالكاد تحلحلت، على الرغم من أنها لا تتماشى إطلاقاً مع أكثرية الشعب الإيراني.
تغيير حقيقي؟
في الواقع أن إيران تذكّر بشخصية الرسوم المتحركة “لوسي” التي تثبّت الكرة أمام صديقها “تشارلي براون” ليركلها إنما تعمد إلى إزالتها قبل أن يتمكن فعلياً من ركلها. إذ لطالما أظهرت إيران تلميحات بالإصلاح للمواطنين المتفائلين والمراقبين الغربيين لتعود وتسلبهم إياها في النهاية. لذلك، وفيما يقوم المشرّعون الجدد بتشكيل «مجلس شورى» آخر يفترض أن يكون مؤهلاً لمساعدة الرئيس الإصلاحي على إضفاء صفة الاعتدال على سياسات النظام المستهجنة، يبقى السؤال مطروحاً حول ما إذا كانت فعلاً “الثالثة ثابتة”.
باتريك كلاوسون
معهد واشنطن