خلال عهد الرئيس محمد خاتمي كان حسن روحاني مَن قاد مفاوضات مع دول الغرب وصولاً إلى اتفاق على تجميد تخصيب اليورانيوم، وبحسب كثير من المحللين فإن معاودة تنشيط البرنامج النووي كانت وراء اختيار محمود أحمدي نجاد للرئاسة عام 2005 وما رافقه من تصاعد لنفوذ المحافظين وبالأخص لـ«الحرس الثوري». في ذلك العام كان نظام طهران شريكاً لنظام دمشق في قرار اغتيال رئيس الوزراء اللبناني السابق رفيق الحريري وما تلاه من انسحاب القوات السورية من لبنان وتداعيات أخرى متفاعلة حتى الآن، وفي العام نفسه كانت شراكة النظامين بلغت أوجها في «مقاومة الاحتلال الأميركي» للعراق من خلال تسهيلات قدّماها لمجموعات شتّى بينها تنظيم «القاعدة» الذي استولد لاحقاً تنظيم (داعش). وفي الأثناء، كانت إيران اخترقت العراق، وراحت تدشّن شراكة أخرى لتقاسم النفوذ مع المحتل الأميركي، وعندما انسحب الأخير في 2011 أصبحت لها الكلمة العليا على الحكم والحكومة.
وقبل عامين ونيّف انتُخب روحاني رئيساً ليقود بصفته من «الإصلاحيين»، مفاوضات مع دول الغرب بهدف التخلّص من العقوبات التي شلّت الاقتصاد، فالبرنامج النووي بلغ أقصاه من دون أن يحقق الهدف بتزويد إيران بـ«قنبلة»، لكنه مكّنها من استخدام «القنبلة» الموازية، المذهبية، لتحقيق معظم أهداف مشروع الهيمنة على محيطها العربي. وبعد سبعة شهور على التوصّل إلى اتفاق نووي، تخللتها سجالات ساخنة بين «محافظين» و«إصلاحيين»، جاءت انتخابات مجلس الشورى والخبراء لتُظهر أوسع عملية خلط أوراق في الاصطفافات، فالإصلاحيون أفرزوا «المعتدلين»، والمحافظون توزّعوا على درجات متفاوتة من التشدّد إذ اضطر «معتدلوهم» للترشّح على قوائم «معتدلي» الإصلاحيين، أما «المستقلّون» فبدوا للمرّة الأولى قوة يُحسَب حسابها، وهكذا ولد ما يمكن اعتباره خطاً «وسطياً»، وثمة مَن يصنفه «واقعياً»، فيما تبيّن عملياً أنه عدا استثناءات قليلة للمؤدلجين فلا ارتباطات حزبية صارمة في إيران، وأن المحافظة والتشدّد يتوقّفان على المصالح.
وكما كان البرنامج النووي عاملاً مهماً في تشكيل «إجماع وطني» يبرّر إسقاط علي أكبر هاشمي رفسنجاني (2005) ثم إسقاط مير حسين موسوي (2009) لمصلحة نجاد، فإن الاتفاق النووي كان محورياً في تشكيل الاصطفافات الجديدة داخل كتل «المحافظين» بين مؤيد ومعارض له، لكن اللافت في هذه الظاهرة أنها تجنّبت النقاش حول مَن أصاب ومَن أخطأ، وكيف أن المصلحة الوطنية كانت في التمسّك بالبرنامج النووي ثم أصبحت في التخلّص منه، والأهم أن أحداً لم ينبرِ للمقارنة بين النتائج أو للمساءلة، فقبل عقد ونيّف كان الاقتصاد مُجهداً ويحاول التعافي وكان هناك مشروع قنبلة نووية يلزم الجميع بالتضحية أو أقله بالصمت، أما الآن فالاقتصاد في أسوأ أحواله والقنبلة تبخّرت والخسائر جرّاء العقوبات لا تعوّضها الأموال المستعادة بالتقسيط، لذلك كان في التصويت منحى عقابي وحضٌّ على التغيير، بالتركيز على الداخل بدلاً من الانجذاب إلى مغامرات الخارج التي قد تكون جلبت «نفوذاً» لكنها صنعت الكثير من الأعداء.
لا شك أن غياب حرية التعبير هي التي تجعل الكتلة الاجتماعية الكبرى، المكوّنة من الشباب، تنتهز أي فرصة متاحة سواء بالتظاهر احتفالاً بالاتفاق النووي، أو بكثافة التصويت لإطلاق رسالة إلى المتشدّدين، بل إلى رئيسهم الأعلى، المرشد، فرغم كل العوائق أمكن إطلاق تلك الرسالة علّها تساهم في تحريك جمود العقلية السياسية، لكن هذه الفرصة المتاحة، التي عزّزت موقع الإصلاحيين، غير كافية لتوقّع تغييرات ملموسة، فإيران يحكمها «الباسدران» والاستخبارات و«الباسيج» والقضاء و«مجلس صيانة الدستور»، وهذه مرتبطة بالمرشد، الذي يتخذ القرارات الاستراتيجية بعد درسها في المجلس الأعلى للأمن القومي، ولا سلطة لرئيس الجمهورية أو للبرلمان المنتخَبَين على هذه المؤسسات، أي أن النظام محكم الإغلاق لا يخشى لعبة الانتخابات أو الإيحاء بأن أقرب القريبين منه أصيبوا بانتكاسة.
في السابق كان النظام يقدّم الشأن النووي باعتباره موحِّداً للشعب وتحدياً لأميركا، وها هي الانتخابات تجعل الاتفاق النووي تحدّياً للنظام بما يفترضه من انفتاح ضروري لإنهاض الاقتصاد، فالخريطة السياسية التي انبثقت منها تعبّر عن تبدّل في القناعات والاستقطابات، لكن التحالف/ التماهي بين المرشد والملالي والعسكر يبقى المتحكّم الفعلي بالدولة والموارد، والمؤكد أن التحالف لا يعترف بالإصلاحيين، والآن بالمعتدلين إلا عندما يحتاجهم لتغطية أخطائه، أو ليكونوا الوجه المبتسم الذي يحاول الانفتاح على الخارج، لا سيما دول الخليج العربية. قد يفيدونه في الداخل رغم أن التوقعات كبيرة، لكنهم لن يفيدوه في الخارج لأن ألاعيب النظام باتت مكشوفة.
عبدالوهاب بدرخان
صحيفة الاتحاد