نهاية النظام الذي تهيمن عليه الولايات المتحدة في الشرق الأوسط

نهاية النظام الذي تهيمن عليه الولايات المتحدة في الشرق الأوسط

معدات جنود أميركيين في قاعدة شرق أوسطية - (أرشيفية)

تنسلُّ مقالة جيفري غولدبيرغ الرائعة إلى داخل أفكار الرئيس أوباما حول السياسة الخارجية، وتستكشف منابعها. وبهذا المعنى، يكون عمل غولدبيرغ قد ساعد الرئيس على تعريف وتفسير “عقيدة أوباما” أكثر من كل الجهود السابقة التي بذلها البيت الأبيض نفسه، والمختزلة في تلك العبارات المحفوظة التي لا تُنسى “لا تفعل أشياء غبية”، و”القيادة من الخلف”، والتي لا يمكن أن تنصف عقيدة معقدة وبعيدة المدى على حد سواء من حيث تداعياتها على السياسة الأميركية الخارجية.
بروايته الخاصة، كان أهم افتراق لأوباما عن “كتاب قواعد لعبة واشنطن” المعروف قد جاء يوم 30 آب (أغسطس) 2013، عندما قرر عدم تفعيل وفرض “الخط الأحمر” الذي كان قد وضعه ضد استخدام نظام الأسد للأسلحة الكيميائية في سورية. وبالنسبة لأوباما، كانت تلك لحظة فارقة، بل وكانت لحظة فخورة أيضاً، كما قال لغولدبيرغ. وكان معظم أوثق مستشاريه للسياسة الخارجية -بمن فيهم مستشاره للأمن القومي، ووزير خارجيته، ونائب الرئيس- قد حذروه من أنه يضع بذلك مصداقية الولايات المتحدة نفسها على المحك.
لكن الرئيس كان عالقاً بين حتميتين متعارضتين.
كانت الحتمية الأولى هي تصميمه على ردع استخدام أسلحة الدمار الشامل، والذي ينبع من إيمانه بأهمية إقامة نظام عالمي قائم على الأسس والقواعد. وكانت إحدى أولويات أوباما هي حماية المواطنين العاديين على سطح الكوكب من تهديد الإرهاب، والأوبئة، وتغيرات المناخ، ومن انتشار أسلحة الدمار الشامل. ويأخذ تحقيق هذا الهدف بالنسبة له أسبقية على فكرة العودة إلى المنافسة الجيو-سياسية مع القوى الرجعية مثل روسيا والصين وإيران. وقد نتج اتفاق باريس للتغير المناخي، والقضاء على تهديد الإيبولا، والاتفاق النووي الإيراني، والحرب ضد “داعش”، كلها عن قيام أوباما بتحويل التركيز عن التهديدات الإقليمية إلى التهديدات العالمية. وبإظهار اللباقة الدبلوماسية، وتحشيد المجتمع الدولي خلف فرض عقوبات فعالة، واستخدام القوة عند الضرورة، نجح في حماية المصالح الأميركية وترويج نظام دولي يخدم المجتمع العالمي.
كانت الحتمية الثانية، والأكثر إثارة للجدل، بالنسبة للرئيس هي مقاومة الانجرار إلى حرب أخرى في الشرق الأوسط، وهي منطقة يعتقد بضرورة خفض مستوى المصالح الأميركية فيها. وحسب رأيه، فإن وفرة النفط الحالية وتحقيق الاستقلال الأميركي في مجال الطاقة يجعلان من حماية احتياطات النفط في الشرق الأوسط والحفاظ على التدفق الحر لنفط الخليج بأسعار معقولة، مصالح أميركية مهمة، وإنما التي لم تعد حيوية وحاسمة. وقد كلفت الحملات العسكرية المطوَّلة في العراق وأفغانستان الولايات المتحدة قدراً هائلاً من الدم والمال، مع القليل مما يمكن عرضه والتباهي به في المقابل. وأثبتت ليبيا كونها “عرضاً بالغ الرداءة” فيما يعود في جزء منه إلى التعنت القبلي، الذي تستطيع القوة الأميركية أن تفعل القليل جداً للتغلب عليه. وانتهت الحرب الباردة، على نحو قلل بقدر يعتد به من الحاجة الاستراتيجية إلى مواجهة التدخل الروسي لدعم نظام الأسد، الذي كان دائماً، على أي حال، عميلاً روسياً. وفي مقابلاته مع غولدبيرغ، يقول أوباما إن عملية فلاديمير بوتين في سورية جاءت “بكلفة هائلة على رفاه بلده الخاص”. وباختصار، يعتقد أوباما أن روسيا ربما تكون قد حصدت بعض المكاسب على المدى القصير، لكنها ستدفع الكلفة بالألم على المدى الطويل.
أما حلفاء أميركا الشرق أوسطيين، وعلى الرغم من شكواهم المستمرة، فإنهم ينبغي أن يكونوا قادرين على الصمود في وجه الفوضى المتصاعدة بالدعم الذي ما يزال أوباما مستعداً لتقديمه، وإنما من دون العمل العسكري الأقوى الذي يطالبون به. وإذا ما تزعزع استقرار مصر والعربية السعودية، فإن ذلك سيكون بسبب سياساتهما الخاصة من القمع أو نزعتهما التدخلية العنيدة، وليس بسبب فشل أوباما في فرض خطوط حمراء أو إرسال قوات أميركية إلى المنطقة. بل إنه يقول لغولدبيرغ في واقع الأمر إن على السعودية “تقاسم الحي” مع إيران.
وثمة حتمية ثالثة تعزز وتبرر وجهة نظر أوباما المستهجنة إزاء التورط الأميركي في الشرق الأوسط: “إعادة التمحور” بعيداً عن الشرق الأوسط وفي اتجاه آسيا. وينبع هذا التوجه من إدراكه حقيقة أن صعود الصين والهند، باعتبارهما القوتين الأكثر تماسكاً في القرن الحادي والعشرين، يتطلب من الولايات المتحدة تحويل موضع تركيزها. وبشكل عام، مدعومة باتفاقية الشراكة عبر الهادي للتجارة (على افتراض أنها ستمر من الكونغرس)، ونشر القوات وتقوية التحالفات لمواجهة الجسارة الصينية الجديدة في بحار الصين الجنوبية والشرقية، يرجح أن تبرهن إعادة موازنة أوباما لأولويات السياسة الخارجية الأميركية كونها التغير الأكثر أهمية في الاستراتيجية الأميركية منذ انفتاح ريتشارد نيكسون على الصين.
لكن الاختبار الحقيقي لعقيدة أوباما هو كيف تؤدي في اللحظات حيث تصبح غاياتها متضاربة. وكان قرار أوباما عدم فرض خطه الأحمر وضرب أهداف للنظام السوري خياراً واضحاً لصالح تجنب التورط في الحرب الأهلية السورية على حساب ردع استخدام أسلحة الدمار الشامل. لكنه جاء بكلفة، وليس فقط على المصداقية الأميركية: لقد مات نحو 1.500 مدني سوري نتيجة لهجوم شنته قوات بشار الأسد بغاز السارين في آب (أغسطس) 2013، لكنهم يشكلون جزءا صغيرا جداً فقط من 470.000 سوري الذين قتلوا منذ بدء الحرب العالمية. وتترافق هذه الحصيلة المذهلة من الموت بمعاناة 9 ملايين سوري مشرد و5 ملايين لاجئ، والذين يطرق نحو مليونين منهم أبواب أوروبا ويهددون بتمزيق الاتحاد الأوروبي إرباً.
وكانت لإصرار الرئيس على تجنب الانخراط العسكري الأميركي في الشرق الأوسط تداعيات أخرى أيضاً. فقط تطلب ذلك من أوباما التخلي عن دور أميركا باعتبارها القوة المهيمنة المسؤولة عن الحفاظ على النظام في منطقة مضطربة بعمق -وهو دور لعبته الولايات المتحدة لأكثر من خمسة عقود. وبدأ تفكك النظام الشرق أوسطي الذي تهيمن عليه أميركا مع الإطاحة بالرئيس المصري حسني مبارك -أحد أعمدته- في شباط (فبراير) 2011. وعلى الرغم من أن عقيدة أوباما عند تلك النقطة كانت ما تزال في مراحلها التكوينية، فإن حقيقة أن أوباما دعم الإطاحة بمبارك وضعت كل حلفاء أميركا الإقليميين شكلت إشعاراً للجميع بأن ثمة شيئاً هائلاً كان قيد الحدوث.
كان قرار أوباما في نهاية ذلك العام إنهاء وجود القوات الأميركية في العراق متساوقاً مع التزامه بإنهاء التورط الأميركي في حروب الشرق الأوسط. ولكن نتيجته كانت ترك بغداد في يد حكومة شيعية خاضعة للنفوذ الإيراني، وترك المناطق العراقية السنية مشكوفة أمام عودة تنظيم القاعدة الذي سرعان ما تحول إلى “داعش”.
ربما فسر البعض في المنطقة جهود أوباما لمنع إيران من حيازة أسلحة نووية كمؤشر على أنه ما يزال راغباً في لعب دور الحامي للنظام المنطقة. لكن تلك قراءة خاطئة لنواياه. لقد كان مصراً على عرقلة كل مسارات إيران في اتجاه حيازة سلاح نووي، وليس لأن الفشل في القيام بذلك كان سيضيف المزيد من زعزعة استقرار الشرق الأوسط، وإنما لأن ذلك الفشل كان سيقوض بشكل حاسم نظام عدم الانتشار، وهو أمر يشكل دعامة حاسمة لأجندته العالمية.
صنع تفضيل أوباما تحقيق هدف عالمي على حساب واحد إقليمي فرصة لبوتين. ووسط قصة “الخط الأحمر”، أقنع الزعيم الروسي الأسد بتسليم معظم أسلحته الكيميائية، منقذاً أوباما بذلك من معضلته، بينما ينقذ الأسد من عواقب القوة الأميركية. وقد كرر بوتين هذه المسرحية من خلال تقديم الدعم الروسي للمفاوضات النووية، بقيادة الولايات المتحدة، مع إيران.
أدرك الرئيس الروسي أن عقيدة أوباما زودته بفرصة لمتابعة تحقيق طموحاته الجيوسياسية الخاصة في الشرق الأوسط عن طريق التعاون مع أجندة أوباما العالمية. وعلى نحو ليس مستغرباً، يقول أوباما لغولدبيرغ إنه يجد بوتين “مهذباً للغاية… ومهتماً دائماً بالظهور بمظهر الندِّ لنا وأنه يعمل معنا، لأنه ليس غبياً تماماً”. وقد حسب بوتين، بشكل صحيح، أن إدارة أوباما سوف تذعن للتدخل الروسي العسكري في سورية لمنع الإطاحة بحليف روسيا القديم هناك، طالما ساعدت روسيا أوباما في تحقيق أجندته العالمية لمكافحة الإرهاب، والمناهِضة لـ”داعش”.
بالنسبة للعديد من النقاد في واشنطن والشرق الأوسط، تشكل عقيدة أوباما سيلاً من الأخطاء الاستراتيجية. ويشير هؤلاء النقاد إلى أن روسيا وإيران اندفعتا لملء الفراغ الذي خلفه تراجع أميركا عن القيادة في المنطقة. وينظر أنصار التدخل لدواعٍ إنسانية إلى هذه العقيدة على أنها خيانة للقيم الأخلاقية الأميركية. وبالنسبة لحلفاء أميركا في الشرق الأوسط، فإنها حفزت عملية إعادة حساب كبيرة. ولا عجب بعد ذلك أنهم أصبحوا يسيرون سراعاً نحو الكرملين.
أما بالنسبة للرئيس نفسه، فإن هذا كله حاصل منطقي، بل وحتى مرحب به: إذا كان بوتين يريد الاضطلاع بمهمة استعادة النظام في منطقة فوضوية، فامنحوه ذلك -ويثق أوباما بأن بوتين سوف يفشل أيضاً. وبالنسبة لوقف إطلاق النار السوري الهش الذي أصبح ممكناً بالتعاون الأميركي الروسي، فإنه سيمكن الرئيس، إذا صمد، من تقليل واحد من أكثر التداعيات الجانبية إقلاقاً في عقيدة أوباما: معاناة الشعب السوري.

ترجمة: عبدالرحمن الحسيني

صحيفة الغد الأردنية