بثت حركة طالبان الأفغانية شريط فيديو دعائياً في شهر آب (أغسطس) الماضي، والذي يظهر أكثر من 100 مقاتل يحملون بنادق (إيه كيه-47) ويركبون دراجات نارية، ويتجمعون في رابعة النهار خارج مدينة قندوز الأفغانية للإعلان عن ولائهم لقائد المجموعة الجديد. وكان حدوث هذا المشهد مستحيلاً قبل عامين، حين كان أي حشد من مقاتلي طالبان يقتل من الجو بقصف الطائرات الحربية الأميركية.
لكن الأوقات تغيرت. فقد سحبت الولايات المتحدة معظم قواتها في العام 2014، وخفضت بشكل كبير عدد الضربات الجوية التي تنفذها ضد أهداف طالبان في عموم البلد. كما سلطت تلك الصور من قندوز الضوء أيضاً على كيفية استفادة طالبان المستمرة من حريتها الجديدة: من خلال غزو المدينة. وكان المتمردون قد سيطروا على المدينة لمدة أسبوعين قبل أن تقوم القوات الأفغانية والأميركية بطردهم منها في تشرين الأول (أكتوبر) الماضي. ومع ذلك، يعتقد العديد من المسؤولين أنها لا تعدو مسألة وقت قبل أن تستهدف طالبان هذه المدينة مرة أخرى.
ولا يغيب عن البال أن القوة العسكرية المتنامية لطالبان قد تشكل موضوعاً استراتيجياً شائكاً للرئيس باراك أوباما، الذي كان قد اعتلى سدة الرئاسة متعهداً بإنهاء ما تعد راهناً أطول حرب لأميركا في الخارج. وكانت الولايات المتحدة قد أنفقت عشرات المليارات من الدولارات على تدريب جهاز الأمن الأفغاني الذين مني بخسائر ضخمة بينما كان يحاول -ويفشل- في صد تقدم مقاتلي طالبان في جنوب وشرق وشمال البلاد. ومن شأن ذلك أن يترك البيت الأبيض أمام خيار لا صعب الهضم: الإبقاء على القواعد الصارمة التي تحدّ من عدد الضربات التي تنفذها طائراتها، والمجازفة بذلك في مشاهدة المتشددين وهم يستمرون في كسب الأرضية؛ السماح للطيارين الأميركيين بقصف سلسلة أوسع من الأهداف على حساب تعميق الدور القتالي لواشنطن في أفغانستان.
وكانت قواعد الاشتباك قد أصبحت مقيَّدة بحدة بالإنهاء الرسمي لمهمة حلف “الناتو” القتالية في شهر كانون الثاني (يناير) من العام 2015. لكن بإمكان القادة الأميركيين استدعاء الضربات الجوية لحماية قوات “الناتو” فقط، ولاستهداف متشددي القاعدة؛ أو لمساعدة القوات الأفغانية التي تكون تحت خطر الاجتياح على يد طالبان أو التي تمنى بهزيمة نكراء على الأرض.
من الناحية العملية، يعني ذلك أن الولايات المتحدة أصبحت نادراً ما تستهدف المتشددين من الجو. وبعد أن وقع جنود القبعات الخضراء الأميركيون وحلفاؤهم الأفغان في كمين بالقرب من بلدة مرجة في مقاطعة هيلمند في كانون الثاني (يناير)، استدعى الأميركيون 12 ضربة جوية لصد مهاجمي طالبان، ولشراء الوقت لإتاحة المجال أمام وصول قوة إنقاذ. وفي تشرين الأول (أكتوبر) الماضي، وجهت القيادة الأميركية طائرات قتالية لقصف مواقع طالبان في مدينة قندوز خلال قتال مكثف من منزل لمنزل هناك. لكن الطاقم استهدف البناية الخاطئة، مما أسفر عن مقتل 42 مريضاً وموظفاً في مستشفى تابع لمنظمة أطباء بلا حدود.
مع تقدم طالبان وتوسيع مجموعة الدولة الإسلامية “داعش” لتواجدها في أفغانستان، يعتقد مسؤولون رفيعون في البنتاغون (وزارة الدفاع الأميركية) أن الوقت قد حان لتغيير قواعد الاشتباك تلك هناك. وهم يدفعون من أجل إعادة مراجعة قواعد الاشتباك بحيث يكونون مطلقي اليد في إطلاق النار على قوات طالبان المتجمعة للاستيلاء على أراض ولاستهداف قيادتهم مباشرة.
ومن الممكن أن يعني ذلك زيادة درامية في عدد الضربات الأميركية ضد طالبان، المجموعة التي أمضت واشنطن سنوات وهي تحاول خطب ودها لجلبها إلى طاولة المفاوضات. كما أن من شأنها أن تمثل عكساً حاداً لوجهة ديناميات ميدان المعركة الأخيرة في أفغانستان. ومنذ تبني قواعد الضربات الجوية الجديدة في العام 2015، أصبحت الحرب الجوية الأميركية هناك مقيدة بشكل كبير، وفق القيادة الوسطى للجيش الأميركي. وفي العام 2014، وبينما كانت مهمة “الناتو” القتالية تمضي قدماً، أسقطت الطائرات الحربية الأميركية نحو 2365 قنبلة في أفغانستان. وفي مقابل ذلك، أسقطت الطائرات الحربية الأميركية نحو 947 قنبلة فقط في العام 2015.
والنتيجة أنه بينما ما يزال النقاش السياسي في واشنطن يتركز على عدد القوات الأميركية التي يجب أن تبقى في أفغانستان، فإن مستقبل الحرب في ذلك البلد يمكن أن يكون مرهوناً -ليس بعدد القوات البرية، وإنما بدور القوة الجوية الأميركية هناك.
وكان الجنرال جون كامبيل، القائد الأعلى الأميركي في أفغانستان حتى وقت قريب، قد أمضى نحو عام وهو يطلب من البيت الأبيض السماح للجيش الأميركي بقصف أهداف “الدولة الإسلامية” الجديدة هناك. ولم توافق الإدارة على التغيير حتى شهر كانون الثاني (يناير) الماضي. ورفض مسؤولو الدفاع، في الأثناء، ذكر تفاصيل عن الضربات الجوية التي شُنت على أهداف “داعش” هناك. وتجدر الإشارة إلى أن الغارات الجوية الموسعة الأخيرة ساعدت في تراجع وتقهقر “داعش” في الشهرين الماضيين، كما قال مسؤولون حاليون وسابقون في البنتاغون. ومن جهته، قال نيكولاس هايسوم، الممثل الخاص للأمين العام للأمم المتحدة حول أفغانستان لمجلس الأمن الدولي مؤخراً إن غارات القصف الأميركية ساعدت في حشر “داعش” في زاوية صغيرة في البلد، على طول الحدود مع باكستان.
ولكن، وفي حين يتعرض متشددو مجموعة “داعش” إلى ضغط من الجو، فإن حركة طالبان ما تزال تمتلك القدرة على نقل المقاتلين والمعدات عبر حدود باكستان متمتعة بالحصانة، بينما تشن عمليات تقليدية بتنوع ومدى لم يُشهد لهما مثيل منذ غزو أفغانستان تحت القيادة الأميركية في العام 2001.
وفي مقاطعة هلمند الجنوبية؛ حيث منيت الولايات المتحدة وحلفاؤها من “الناتو” بخسائر فادحة في العقد الماضي، أجبرت شدة البأس التي ميزت دخول طالبان إلى المنطقة القوات الأفغانية على التراجع والانسحاب من مناطق رئيسية، مثل قلعة موسى وناوزاد. وبشكل عام، أصبحت طالبان تسيطر على خمس من أصل 14 منطقة، وتقاتل لكسب اليد العليا في معظم المناطق المتبقية.
في الأثناء، تبذل الحكومة الأفغانية قصارى جهودها لإقناع واشنطن بإرجاء تطبيق الخفض المقرر للقوة الأميركية الحالية في البلد، وقوامها 9800 جندي، وللإبقاء على مساعدتها من خلال تقديم القوة الجوية والدعم اللوجيستي. وينتمي حوالي 3000 رجل من أولئك الجنود إلى قوات العمليات الخاصة، ويرافق بعضهم قوات الكوماندوز الأفغانية في مهمات، بينما تقوم البقية منهم بالتدريب وتقديم الاستشارات المتركزة بشكل رئيسي في كابول.
من جهته، يقول جيمس كانغهام، السفير الأميركي السابق لدى كابول، إنه يجب على واشنطن السماح للجيش بقصف طائفة أوسع من الأهداف. وقال لمجلة “فورين بوليسي” إنه يجب على الإدارة أن توسع سلطات قادتنا لتمكينهم من الاستخدام الأكثر مرونة لجيشنا، وخاصة القوة الجوية، دعماً للقوات الأمنية الأفغانية ولمهمة مكافحة الإرهاب.
وما يزال البيت الأبيض يتلقى رسالة مشابهة من كامبل. وطيلة فترة عمله، حذر كامبل من تعنت طالبان، عارضاً قضية تبطيء خطط سحب القوات وتوسيع دور المستشارين الأميركيين على الأرض.
وفي جلسات استماع لشهادته أمام الكونغرس في الشهر الماضي، قال كامبل للمشرعين: “أحد الأشياء التي تطلبها القوات الأفغانية في كل يوم هو الدعم الجوي الوثيق”.
وقال أيضاً إنه يعتبر طالبان عدواً للولايات المتحدة، “لأنها قتلت العديد من جنودي”، وإن خفض عديد القوات الأميركية والقوة الجوية أعطى دفعة للتمرد.
وأشار الجنرال ذو النجوم الأربع إلى أن خطة أوباما لخفض عدد القوات الأميركية إلى حوالي 5500 جندي في وقت لاحق هذا العام، ربما يجب أن تُستبعد إذا استمرت القوات المحلية في المعاناة، “وإذا لم يستطع الأفغان تحسين أنفسهم، فإن علينا إجراء بعض التعديلات. وذلك يعني أن الرقم سوف يرتفع على الأرجح”.
لكن حديث كامبل الصريح وضعه تحت النقد في البنتاغون، حيث اتهمه مسؤولون بتقديم طلبه بتوجيه ضربات جدية موسعة ضد طالبان مباشرة إلى البيت الأبيض، متجاوزاً بذلك وزير الدفاع أشتون كارتر، وفق صحيفة “الواشنطن بوست”.
وفي مؤتمر صحفي عُقد مؤخراً، امتنع الناطق بلسان البنتاغون، بيتر كوك، عن الخوض في بحث محتوى المحادثات التي تجري بين الجنرال وبين كارتر، على الرغم من أنه لم يفند التقارير التي تقول إن كامبل غمز من قناة وزير الدفاع. وقال الناطق بلسان القيادة الأميركية الوسطى، الكولونيل بات رايدور، إن كامبل مر من خلال السلسلة المناسبة من القيادة. وفي رسالة بالبريد الإلكتروني موجهة إلى صحيفة الواشنطن بوست، نفى كامبل بشدة أنه حاول بأي طريقة المراوغة والالتفاف على سلطة كارتر.
وقالت البنتاغون إنها لم تتخذ قراراً بتوسيع الحملة الجوية في أفغانستان، وإن الجنرال جون “ميك” نيكلسون الذي خلف مؤخراً كامبل كقائد، يجري مراجعته الخاصة للمهمة. وستفحص المراجعة مسألة القوة الجوية، بالإضافة الى خطة إدارة أوباما الانتقالية لخفض عديد القوات الأميركية في أفغانتسان من 9800 جندي إلى 5500 جندي هذا العام.
لطالما تباحث أوباما والقادة العسكريون في كابول حول أفضل استخدام للقوة الجوية الفعالة في الحرب في أفغانستان. وكانت الغارات الجوية الأميركية قد ساعدت في إسقاط نظام طالبان في العام 2001 بسرعة كبيرة. لكن الرئيس الأفغاني السابق، حميد كرزاي، أدان واشنطن بين فترة وأخرى بسبب الغارات الجوية الأميركية التي قتلت وجرحت مدنيين. وتجدر الإشارة إلى أن المقاربة الأميركية لهذا الشأن تفاوتت باختلاف القادة هناك. وكان الجنرال ستانلي مكريستال قد خفض وتيرة القصف لتجنب إصابة المواطنين الأفغان، بينما عمد خلفه الجنرال ديفيد بترايوس إلى رفع وتيرتها في محاولة لدفع طالبان نحو طاولة المفاوضات.
تظه الدعوات الجديدة إلى شن مزيد من الغارات الجوية الأميركية مدى الضعف المزمن الذي تعاني منه القوات الأمنية الأفغانية، على الرغم من 64 مليار دولار تلقتها على شكل أسلحة وتدريب أميركيين منذ العام 2002. وثمة العديد من المقاطعات والمناطق الأفغانية التي تواجه راهناً تهديد السقوط في أيدي طالبان، وحيث تعاني القوات الأفغانية من الإهمال والقيادة الضعيفة.
وعندما استولى المتمردون على مدينة قندوز في أيلول (سبتمبر)، فشلت الشرطة الأفغانية في إبداء مقاومة كبيرة، وهربت بشكل جماعي. وفي الأثناء، رفض الجيش الأفغاني الانتشار خارج قاعدته في المطار المحلي، كما قال مسؤولون في البنتاغون لمجلة “فورين بوليسي”.
على الرغم من أن القوات الأفغانية غير المنظمة عانت في القتال ضد طالبان، فإن ضباطاً عسكريين في حلف “الناتو” امتدحوا ضباط الصف في الجيش الأفغاني على رغبتهم في دخول القتال. ومنذ مغادرة معظم قوة “الناتو”، ارتفعت الإصابات في صفوف الجيش والشرطة الأفغانيين. فقد قتل وجرح نحو 16.000 جندي أفغاني في العام 2015، بارتفاع نسبته 28 في المائة عن العام السابق. وبالإضافة إلى ذلك، يبني الأفغان قوتهم الجوية بوتيرة بطيئة راهناً، لكنها لن تكون مستعدة تماماً للقتال حتى حلول العام 2020 تقريباً، وفق مسؤولي البنتاغون. وتجدر الإشارة إلى أن الجيش الأفغاني يستخدم حالياً دزينة من الطائرات العمودية المسلحة من طراز (مي- 17) روسية الصنع، وطائرة عمودية واحدة هجومية من طراز (مي- 35) و10 طائرات عمودية خفيفة. وكانت قدرة كابول الجوية قد تلقت تعزيزاً في كانون الثاني (يناير)، عندنا وصلت أول أربع طائرات مقاتلة من طراز (سوبر توكانو إيه 29)، سوية مع ثمانية طيارين كانوا قد تلقوا تدريبات في الولايات المتحدة.
ترجمة: عبدالرحمن الحسيني
صحيفة الغد