كان حدوث ذلك حتمياً سلفاً. خلال الأيام القليلة الماضية، كشف تقرير لوكالة أنباء نقلاً عن دبلوماسي مجهول في مجلس الأمن الدولي التابع للأمم المتحدة النقاب عن أن روسيا وبعض “القوى الإقليمية” التي لم يذكرها التقرير، تعكف على دراسة فكرة إقامة “هيكل فيدرالي” لسورية ما بعد الصراع.
و”الفدرالية”، مصطلح كثيراً ما يأتي في سياقات صنع السلام. وعادة ما يرى المفاوضون الدوليون والأطراف المتحاربة فيه أفضل نظام لدمج الأمم المختلفة والمجموعات العرقية أو الأطراف المتقاتلة، والتي قد يكون لديها كلها سبب للخوف من خضوعها لسيطرة مركز قوي بوضوح.
في الأسبوع الماضي فقط، أعلن الأكراد السوريون عن خطة لتحويل المنطقة الشمالية التي يسيطرون عليها إلى منطقة فيدرالية، أي منطقة تمنحهم حكما ذاتياً واسعاً. وفي الأثناء، قد ترى روسيا في سورية فيدرالية طريقة تتيح لعميلها، نظام الأسد، إمكانية الاحتفاظ على الأقل بحفنة المناطق ذات الأغلبية العلوية والتي تضم الأصول الاستراتيجية لموسكو، مثل القاعدة البحرية في طرطوس. وبالنسبة للقوى الغربية، قد تبدو الفدرالية هي السيناريو الواقعي الوحيد لبلد تقسم أصلاً إلى مناطق عديدة تسيطر عليها مجموعات مسلحة عدة. وبالنسبة لأولئك الذين يخشون من تفكيك سورية بالكامل، قد تبدو الفيدرالية أفضل حل يستطيعون أن يأملوا به.
مع ذلك، يبقى من السهل جداً نسيان حقيقة أن آخرين قد يرون الفيدرالية بشروط مختلفة صادمة. ويخشى المتشككون أن يفضي منح الحكم الذاتي لوحدات فيدرالية إلى انفصال شامل، وعلى نحو يعزز عدم الحل بدلاً من المساعدة في لم شتات البلد مرة أخرى. وفي حالة سورية، رفض مفاوضو الحكومة ومفاوضو المعارضة الفيدرالية على حد سواء، وبطوها بتفكيك البلد. ومن المرجح أن تفعل تركيا أيضاً كل ما في وسعها لمنع قيام “سورية فيدرالية” -خوفاً من تكرار تجربة العراق، دولة فيدرالية حيث تحكم منطقتها الكردية نفسها بنفسها إلى حد كبير.
لقد أثار مجرد ذكر الفيدرالية أصلاً تعقيدات دبلوماسية.
لا يحتاج المرء إلى النظر أبعد من ليبيا ليرى جسامة الطاقات الهدامة التي يستطيع الحديث عن الفيدرالية إطلاقها. فبعد سقوط نظام العقيد معمر القذافي، أصبحت التجمعات السياسية تعرِّف نفسها بأنها فيدرالية أو مناهضة للفيدرالية، وهما موقفان تراهما تلك الجماعات متضاربة بشدة. وأسهمت هذه الانقسامات في تفجر الصراع بطريقة جعلت عملية صناعة الدستور المتواصلة صعبة بشكل غير ضروري. ونجد عند التدقيق الأقرب أن لا أحد من الجانبين يقترح حقاً قيام دولة فيدرالية أصيلة.
وتعرض أوكرانيا أيضاً حالة أخرى تظهر كيف يكون مصطلح “الفيدرالية” مشحوناً عاطفياً وحساساً سياسياً. وعلى ضوء حجمها، فإن من الممكن أن تحكم أوكرانيا جانب دولة فيدرالية. لكن أي حديث عن الفيدرالية يعد بمثابة لعنة لأي أحد في كييف. وهذا صحيح بشكل خاص منذ احتلال روسيا للقرم التي كانت قد تمتعت بنوع من الحكم الذاتي الخاص في أوكرانيا، إلى درجة قد تدفع المرء بمقاربته بالدولة الفيدرالية. وقد نزعت حقيقة مطالبة روسيا تطالب راهناً بالفيدرالية في باقي أوكرانيا الأهلية من هذه الفكرة كلها من دون رجعة.
ثمة أسباب أخرى تجعل الحديث عن الفيدرالية في سورية يُقابل بالمقاومة. والمعروف أن إدخال الفيدرالية في بلد ما يتضمن ترسيم الحدود على الخريطة لخلق وحدات فيدرالية. ويخشى السوريون من احتمال أن يتبين أن هذه الحدود هي نفس تلك التي نحتتها الأطراف المتقاتلة. وعلى الرغم من أن هذا الأمر ليس هو المقصود، فإن قيام القوى الكبرى، مثل الولايات المتحدة وروسيا، برسم حدود على الخريطة، سيجلب تبعات سلبية على نفس المنطقة حيث رسمت بريطانيا العظمى وفرنسا خطوط سايكس بيكو في العام 1916، والتي صنعت الشرق الأوسط الجديد.
وعلى قدر مساوٍ من الحساسية، ثمة الشعور بأن الحدود قد تكون ذات صلة بنحت أراضٍ على أساس خطوط عرقية أو دينية، مع احتمال خلق نوع الدولة الطائفية التي لا يريد معظم السوريين العيش فيها. وتجدر الإشارة في هذا الصدد إلى أن قرار مجلس الأمن الدولي الذي صدر في كانون الأول (ديسمبر) الماضي، والذي أرسى أرضية العمل الدبلوماسي لمفاوضات السلام الراهنة في جنيف، يستبعد صراحة تحويل سورية إلى دولة طائفية. لكن ترسيم الحدود يمكن أن يفضي بسهولة إلى دورة جديدة من العنف. وقد تقاتل مجموعات اليائسة لتجنب أن تصبح أقليات في وحدة فيدرالية جديدة من أجل مصيرها، بينما قد تحاول مجموعة مهيمنة تطهير منطقتها من الأقليات.
المشكلة في تشكيل الفيدرالية أنها تحمل المفاوضات، ومنذ البداية، مفهوماً محدداً لتنظيم الدولة، والذي يستحضر متعلقات سيئة ويدفع أطراف التفاوض إلى كتل معارضة أو مؤيدة. ولا حاجة في الحقيقة لإعطاء اسم لأي حل يجري التفوض عليه.
وتظهر عمليات سلام سابقة عدة كيف يجب أن يعمل المتفاوضون. ففي جنوب أفريقيا وأسبانيا، حيث كان كلا البلدين يمران بحالة توتر جدي بين المستوى الوطني والوحدات الإقليمية، تجنب واضعو دستوريهما الديمقراطيين إعطاء ماركات وتوصيفات للترتيبات الإقليمية التي أرسيت في النصوص. وقال جون غارنغ، الذي فاوض على صفقة السلام بين شمال وجنوب السودان: “إننا لم نستخدم أي كلمة رسمية في (اتفاقية السلام) برمتها لوصف نوع الحكومة التي فاوضنا واتفقنا عليها. ربما استرشدنا بالمثل الأفريقي القائل إنه لا يجب تسمية الطفل قبل أن يولد”.
تكمن أفضل نقطة بداية لأي مفاوضات في الإقرار بعدم وجود قوالب سوداء وبيضاء لتنظيم أراضي بلد ما. ولا توجد من الناحية الفعلية أي دولة مركزية تماماً اليوم، وثمة في الحقيقة العديد من الدول غير المركزية مثلما هناك العديد من الدول المركزية. ويستشرف قرار مجلس الأمن الدولي صياغة دستور جديد لسورية، والذي يفتح الطريق أمام تجاوز نظامها المركزي الراهن.
يستطيع المفاوضون استخدام هذه العملية كأساس للطلب من الأطراف تقديم وصف مفصل لترتيبات المحددة التي يفضلونها: كم يجب أن يكون عدد مستويات الحكومة؟ وماذا يجب أن تكون صلاحياتها؟ وأين يجب أن تجمع وتوزع الضرائب؟ وأي مستوى من الحكومة يكون مسؤولاً عن الشرطة والمدارس والطرقات؟ وهل يجب أن تتمتع الوحدات الفرعية بالصلاحيات نفسها أو أن من الممكن أن تكون هناك ترتيبات متوازية؟
سيكون من شأن تفاوض يركز على هذه القضايا الجوهرية أن يقدم المزيد من الفرص لاستكشاف فضاءات لحل وسط، وليس خياراً ثنائياً بين نظام فيدرالي ونوع من بديل آخر. كما أن مقاربة من هذا القبيل ستطبق بشكل أفضل قرار مجلس الأمن الدولي الذي يشير إلى أن المفاوضات يجب أن تقاد و”تمتلك” من جانب السوريين أنفسهم.
ومن الطبيعي أن المفاوضين لن يكونوا قادرين على تجاهل الارتباطات العرقية أو الدينية لمختلف المجموعات في سورية عندما يجري تفحص الخيارات لإضفاء اللامركزية على الدولة، حتى لو أن هناك إجماعا على مستقبل غير طائفي للبلد.
وفي الوقت نفسه، يجب أن تكون أي اتفاقية سلام مقبولة لدى شرائح عريضة من المواطنين إذا اريد لها أن تصمد. وينص قرار مجلس الأمن الدولي التابع للأمم المتحدة على أن أي اتفاقية جديدة يجب أن يُصادق عليها باستفتاء. ولذلك، ثمة مسوغات عملية جداً لتجنب استخدام مصطلح يرى الكثيرون أنه مقدمة للتفكك، والذي قد يدفع العديد من السوريين إلى الشعوب بالخوف من تصنيفهم في مجموعات عرقية أو دينية. يجب أن يكون العلاج واضحاً. دعونا نشجع الأطراف على التركيز على القضايا المحسوسة، وليس على التسميات.
ترجمة:عبدالرحمن الحسيني
صحيفة الغد الاردنية