رغم أن الجولة الثانية من مفاوضات جنيف3 حول سوريا، لم تسفر عن تقدم ملموس في مسار الحل السياسي الذي ينهي مأساة السوريين، فإنها ليست كسابقتها، حيث إنها المرة الأولى التي يتم فيها ملامسة جوهر القضية السورية المتمثل في الانتقال السياسي من نظام الاستبداد إلى الحرية والخلاص.
كما أنها رسمت حدود الجولة القادمة من المفاوضات، المزمع عقدها في العاشر من الشهر المقبل، في التركيز على القضايا الجوهرية والانتقال السياسي، بما يعني بدء ظهور الملامح الأولية للحل السياسي الذي يرسمه ساسة موسكو وواشنطن، استنادا إلى بيان جنيف في يونيو/حزيران 2012 وقرار مجلس الأمن 2254 الصادر في ديسمبر/كانون الأول 2015.
الأحداث والحيثيات
وإن كانت الجولة الثانية من مفاوضات جنيف3، قد عقدت على وقع الخروقات الكثيرة للهدنة التي نص عليها الاتفاق الروسي الأميركي من طرف المقاتلات الروسية ومقاتلات وقوات النظام السوري والميليشيات المحالفة، إلا أن أحداثا عديدة حصلت بالتزامن معها، وخلالها، أثرت على المفاوضين والمفاوضات.
“كان توقيت إعلان بوتين الانسحاب من روسيا قد شكل عامل ضغط معنوي على الأقل على نظام الأسد كي ينخرط بجدية في مفاوضات جنيف، وألا يستمر في لعبة التعطيل والعرقلة وشراء الوقت، بالرغم من أن جوهر المسألة الحاسمة التي ما زالت المفاوضات بعيدة عن ملامستها، هي رحيل رأس النظام السوري”
ولعل أهم هذه الأحداث من جهة التأثير، هو إعلان الرئيس الروسيفلاديمير بوتين المفاجئ والمسرحي الإخراج عن سحب الجزء الأعظم من قواته من سوريا، كونه تزامن مع اليوم الأول من بداية الجولة الثانية من المفاوضات بين ممثلي النظام السوري وممثلين عن المعارضة، وكان وقعه على وفد النظام كبيرا، حيث بدا واضحا مدى الارتباك في إجابة رئيس وفد النظام إلى المفاوضات بشار الجعفريعن تأثير القرار على سير عملية التفاوض.
ولم ينفعه تسويق كلام زائف عن أن قرار الانسحاب الروسي اتخذ بالتشاور مع رئيسه، (ولم يكن مفاجئا لنا.. وقد جرى بالتنسيق)، مع أن الكرملين أعلن أن بوتين أبلغ الأسد هاتفيا بالفرار الذي اتخذه.
وكان توقيت إعلان قرار بوتين قد شكل عامل ضغط معنوي على الأقل على نظام الأسد كي ينخرط بجدية في مفاوضات جنيف، وأن لا يستمر في لعبة التعطيل والعرقلة وشراء الوقت، بالرغم من أن جوهر المسألة الحاسمة التي ما زالت المفاوضات بعيدة عن ملامستها، هي رحيل رأس النظام السوري.
ولذلك جاء تصريح المندوب الروسي لدى الأمم المتحدة، فيتالي تشوركين، كي يقول علنا للنظام السوري إن الدافع الرئيسي للانسحاب العسكري الروسي هو “تشجيع حل سياسي للصراع”، الأمر الذي شكل إدانة واضحة للنظام، كونه لم يقدّم ما يكفي للانخراط في الحل السياسي.
وليس مصادفة أيضا أن يتزامن إعلان الانسحاب الروسي مع الذكرى الخامسة لانطلاقة الثورة السورية التي أرغمها النظام على العسكرة، وكان يريد تسويق مقولته الزائفة في أن لا ثورة ولا معارضة ولا حرب أهلية في سوريا، بل صراع مع “الإرهاب”، وذلك بعد أن استقوى هذا النظام بالتدخل العسكري الروسي والإيراني، واستقدم ميليشيات الحرس الثوري الإيراني ومليشيا حزب الله اللبناني، وسائر الميليشيات المذهبية، العراقية والأفغانية وسواها.
لقاء الكبار
غير أن وفد النظام بعد أن أفاق على حقيقة واقعة سحب روسيا معظم مقاتلاتها، التي كان يحتمي بها، عاد إلى رهاناته السابقة التي تدور حول محاولته عدم الاعتراف بالمعارضة السورية، حيث جدد رئيس وفده إلى جنيف الحديث عن شكل وفد المعارضة، ومَن يمثل مَن، ومَن هو “الإرهابي” الذي يجب استبعاده، ليعود إلى محاولاته السابقة في حرف قطار التفاوض عن سكته، ويخوض فيما خاضه عشية المفاوضات وزير خارجية النظام وليد المعلم الذي وضع “خطا أحمر”، محاولا وضع منصب الأسد فوق عملية السلام وكل مرحلة “انتقالية”، وكأن عملية التفاوض في جنيف محصورة في مجرد مشاركة وفد المعارضة السورية في “حكومة وحدة وطنية“، تحت رعاية مجرم حرب تسبب في تدمير سوريا، وتهجير أكثر من نصف سكانها، فضلا عن مقتل أكثر من 380 ألف سوري وجرح وتشويه مئات الآلاف.
وبدا واضحا، بعد انقضاء الأسبوع الأول من الجولة الثانية لمفاوضات جنيف، أن حصادها لن يكون وفيرا، ذلك أن وفد النظام لم يقدم شيئا للمبعوث الأممي لسوريا ستيفان دي ميستورا، لكن الأوضح هو أن أوساط الموفد الأممي وأوساط وفد الهيئة العليا للتفاوض، كانت تنتظر اللقاء الهام الذي أجراه وزير الخارجية الأميركي مع الرئيس الروسي، فلاديمير بوتين.
وجاءت مخرجات اللقاء لتؤكد أن ما يخطط له وما يقرره الساسة الأميركيون والروس هو ما يحدد مسار جولات التفاوض في جنيف، حيث تمخض اللقاء عن تحديد سقف زمني لصوغ دستور جديد في شهر أغسطس/آب، الأمر الذي أربك النظام السوري، وخاصة بعد الإعلان عن أن الجانبين، الروسي والأميركي، أقرا بضرورة الدفع في اتجاه الانتقال السياسي، على أساس “تشاركي بين مسؤولين في النظام والمعارضة في صوغ نظام جديد”، وباتت محددات مفاوضات الجولات القادمة من جنيف3، تنحصر في تشكيل حكم جديد تشاركي، في مدة أقصاها نهاية يونيو/حزيران المقبل.
فيدرالية الانقسام
وفيما كان المبعوث الأممي يستعد لطرح تصوره للمبادئ الأساسية للانتقال السياسي في سوريا على المفاوضين، أعلن حزب الاتحاد الديمقراطي الكردي في سوريا (بي يي دي) عن فيدرالية في المناطق التي يسيطر عليها بقوة السلاح في شمال سوريا.
“جاءت مخرجات اللقاء لتؤكد أن ما يقرره الأميركيون والروس هو ما يحدد مسار جولات التفاوض في جنيف، حيث تمخض اللقاء عن تحديد سقف زمني لصوغ دستور جديد في شهر أغسطس/آب، الأمر الذي أربك النظام السوري، وخاصة بعد الإعلان عن أن الجانبين، الروسي والأميركي، أقرا بضرورة الدفع في اتجاه الانتقال السياسي”
وجاء الإعلان ليشكل طعنة للشعب السوري بكافة مكوناته، ذلك أن هذا الحزب، الذي يعتبر الذراع السوري لحزب العمال الكردستاني في تركيا، استغل ظروف المأساة السورية ليعلن عن مشروع كيان فيدرالي، في مؤتمر عقده مع حلفاء له في مدينة الرميلان.
ومن الطبيعي أن تلاقي فيدرالية الـ”بي يي دي” رفضا شعبيا واسعا من مختلف أطياف الشعب السوري، بمن فيهم الإخوة الكرد، كونها جاءت لتشكل دليلا على وجاهة مخاوف السوريين من ممارسات هذا الحزب في بعض مناطق الجزيرة السورية وعفرين، بعد فرضة “إدارة ذاتية”، أو “منطقة حكم ذاتي” فيها، لها مقومات دويلة، من حكومة وبرلمان وجيش وشرطة، ودستور خاص، فضلا عن وجود علم خاص يرفع على الدوام محل علم الثورة السورية.
وهو الأمر الذي جعل الحزب موضع تساؤل، يمتد إلى تناول علاقته بالمواطنين الأكراد، وبالأحزاب الكردية، ولا يقف عند التباس الخطوات الانفرادية التي قام بها منذ قيام الثورة السورية، حيث تثار بين حين وآخر شكوك حول وجود علاقة بينه وبين النظام الأسدي، منذ أن سحب النظام في شهر يوليو/تموز من العام الماضي قواته وأجهزته من المناطق ذات الغالبية الكردية، وتركها في عهدة مسلحي هذا الحزب الذين سبق وأن تمركزوا في تلك المناطق، منذ ربيع العام 2011، بتشجيع من النظام السوري وحلفائه.
كان الأجدى بحزب الاتحاد الديمقراطي أن ينخرط في ثورة السوريين، وأن يسهم في تحقيق مطالبهم وتطلعاتهم، ولن ينكر أحد حقوق الكرد الثقافية والقومية في سوريا المستقبل، التي سينال فيها جميع السوريين حقوقهم المشروعة.
وفيما تنخرط المعارضة السورية في مفاوضات جنيف3، كان المفترض بهذا الحزب أن يقف في صف المعارضة، كي يتحقق خلاص السوريين من المجازر ومن الدمار والكارثة التي سببتها حرب النظام وحلفائه.
ويعي أعضاء وفد المفاوضة في جنيف أنهم أتوا إلى طاولة التفاوض من أجل خلاص السوريين الذين أرهقتهم المجازر والجرائم، وباتوا ينامون ويصحون على وقع قصف الطائرات والصواريخ ومختلف أنواع المدافع والراجمات، ومع ذلك فإن غالبيهم تختلف كثيرا حول أي حل تقسيمي، أو أي حل يعيدهم إلى الوراء، أي إلى استبداد حكم آل الأسد، بأبده وإنجازاته وممانعاته.
عمر كوش
الجزيرة نت