يقول المؤرّخ البريطاني بيتر مانسفيلد إنه بعد نهاية حرب القرم (1853-1856) تعهّدت “القوى المسيحية الأوروبية” في معاهدة باريس “باحترام استقلال وسلامة الأراضي الإقليمية للإمبراطورية العثمانية وبالتدخل المسلح إذا لزم الأمر لحمايتها (كانت الأطماع الروسية هي الماثلة آنذاك)، وقد كان ذلك بمثابة دعوة لتركيا للانضمام للجوقة المدعوة “أوروبا”، مع أن تلك الدعوة جاءت بأسلوب آمر. كانت القوى الأوروبية في واقع الأمر، تمنح لنفسها الحق في التدخل في الشؤون الداخلية للإمبراطورية إذا ما شعرت بأدنى تهديد لمصالحها الاستراتيجية من أي منافس كان، وفي الوقت نفسه كانت تلك القوى تعبّر عن وقوفها وبشكل جوهري إلى جانب الحكومة التركية ومباركتها في محاولة أن تلبس الإصلاحات الداخلية ثوبا غربيا”[1] .
ويقول المؤرخ العربي “زين نور الدين زين” إن معاهدة باريس كانت انتصارا دبلوماسيا لبريطانيا لا سيما البند السابع الذي نص على ضم الباب العالي إلى “المجموعة الأوروبية للمشاركة في الأنظمة والقوانين العامة” وعلى احترام وحماية “استقلال الإمبراطورية العثمانية ووحدة أراضيها” [2].
النتائج:
- أن انضمام الدولة العثمانية إلى “المجتمع الدولي” كان مطلب الدول الكبرى الاستعمارية.
- أن هذا المطلب تحقّق في زمن الضعف والتراجع والهزيمة التي عانت منها الدولة العثمانية.
- أن تحقّق هذا المطلب ترافق بشكل عضوي مع التدخل في شؤون الدولة العثمانية لحماية المصالح الغربية.
- أن هذا التدخل كان بذريعة “حمايتها” من الأخطار المحيطة وتحقيق إصلاحات داخلية ولكن وفق وصفات خارجية.
ولهذا لم يكن من العجيب أن يستنكر المخلصون هذه الفكرة كما جاء على لسان الزعيم المصري الكبير مصطفى كامل باشا في كتابه المسألة الشرقية عند حديثه عن حرب القرم حيث قال إن الدول الأوروبية خدعت الدولة العثمانية بمنحها امتيازين هما:
- التعهّد بضمان استقلال الدولة العلية وسلامتها “وأرتنا الحوادث أن دول أوروبا نفسها سلخت من الدولة العلية جملة بلاد باسم هذا المبدأ نفسه”.
- الاتفاق على جعل الدولة العلية دولة أوروبية وقبولها في المجتمع الأوروبي “ولم تر الدولة لهذا الامتياز فائدة ما، بل كانت نتيجته جر البلايا عليها بازدياد تداخل أوروبا في شؤونها الداخلية” [3].
ولمن يرون أن انضمامنا اليوم “للمجتمع الدولي” انتصار لقضايانا رغم أنه لم يحل قضية واحدة لصالحنا خارج إطار المصالح المادية والأنانية للدول الاستعمارية الغربية، هذه دعوة للنظر في ذلك التاريخ لبرهة، وهذا بالطبع يستلزم البديل وليس الحديث في فراغ، والبديل هو وجود الكيان الكبير الجامع لنا لأنه وحده القادر على مقاومة إملاءات “المجتمع الدولي” الذي هو غربي وليس دوليا، والاستغناء عن ضغوطه وحماية حقوقنا ومصالحنا من قتلة الغرب ولصوصه، أو على الأقل التصدي لهم ووضع شروط جديدة تصنع مجتمعا دوليا حقيقيا وليس حصريا، أما كيانات التجزئة فهي بطبيعتها مجرد توابع وأقصى أمانيها أن تكون ذيولا تحظى برضا الكبار.
أما القانون الذي يتشدق الغرب ويمن على البشرية باختراعه فيقول عنه الأكاديمي الحقوقي البارز ذو الأصل الهندي الأمريكي روبرت وليامز: “إن القانون، الذي يعدّه الغرب أهم وسائل الحضارة، كان أيضا أكثر وسائله فعالية في الاستعمار أثناء إخضاع وإبادة الأمم الهندية في العالم الجديد”[4].
وكان الكاتب الشهير ألكسيس دي توكفيل الذي أسهب في الحديث عن الديمقراطية الأمريكية في مؤلَّفه الشهير قد قال من وسط معمعة اضطهاد الهنود في القرن التاسع عشر من ملاحظته المباشرة: “لقد عجز الإسبانيون عن إبادة جنس الهنود الحمر بتلك الفظائع التي ارتكبوها معهم، وهي فظائع لا نظير لها، وسمتهم بميسم العار، بل إنهم لم يستطيعوا حتى أن يجردوهم كل التجريد من حقوقهم التي لهم، أما أمريكيو الولايات المتحدة فقد حققوا هذا الغرض المزدوج (الحرمان من الحقوق والإبادة) بلباقة مدهشة حقا، وفي هدوء، وعلى صورة قانونية بشكل عمل خيري، ومن غير إراقة دماء، أو انتهاك لمبدأ واحد عظيم من مبادئ الإنسانية في نظر العالم، فمن المستحيل أن يُقضى على قوم مع احترام للقوانين الإنسانية بأكثر مما فعل الأمريكيون بالهنود الحمر”[5].
ولهذا لم يكن من الغريب أن يكون القانون الدولي أيضا هو أكثر وسائل الغرب فعالية في اختلاق ودعم وتثبيت الكيان الصهيوني أثناء إخضاع وطرد وإبادة شعب فلسطين، ألم تُجمِع قرارات “الشرعية الدولية” على “حق إسرائيل في الوجود” بعدما اختلقت شرعية هذا الوجود من العدم (1947) فقتلت وهجّرت ونهبت شعب فلسطين في نفس الوقت الذي تبجّح العالم فيه بشرعة حقوق الإنسان (1948)؟
وكان القانون هو كذلك أكثر وسائل الغرب فعالية في كل عمليات التدخل والاحتلال في بلادنا باسم “إرادة المجتمع الدولي” منذ الانتدابات الاستعمارية زمن عصبة الأمم مرورا بزمن “النظام العالمي الجديد” الذي فرض الدمار والحصار على بلادنا إلى زمن “الحرب على الإرهاب” وما سفك فيها من دماء وأحدثته من خراب، في ظل هذه التبريرات “القانونية” التي تذكرنا بجرائم أوروبا في بقية العالم في زمن التدافع الاستعماري، فمن أين سيأتي الإنصاف بعد كل هذا؟
انضمام فلسطين للمجتمع الدولي
فهل انضمام ضحية كفلسطين إلى هذا “المجتمع الدولي” الذي أقر تمزيقها وقتل أهلها وتشريدهم ونهبهم يمكن أن يكون مكسبا لها؟ وكيف يكون رضا اللص علامة على الفوز؟ وهل ستقف أطماعه عند حد معين يتيح للضحية الحياة ولو على الفتات؟ ثم أليس ضعفها وتفرد المجرمين بها هو الذي أرغمها على هذا المصير؟ وهل كان هذا هو حالها عندما كانت جزءا من كيان واسع وكبير؟
وعندما يثيرمجرم كتوني بلير “مشكلة” انسجام المسلمين مع قيم العالم الحديث،لا نعرف ممّ نسخر: من قيم هذا العالم الذي ارتكب جريمة العصر الكبرى في العراق التي استمرت عقودا، أم مما يعرضه لنا من قيم كما تم تطبيقها هناك، أم من كونه يباهي بتلك الجرائم أمة صنعت معظم مراكز حضارتها خارج نطاق مهدها العربي الأول، أما لصوص الغرب فاحتكروا التقدم والرفاهية على حساب الآخرين ودمروا بلاد غيرهم ونهبوها، وندرك فورا أن المشكلة بيننا وبين الغرب و”مجتمعه الدولي” ليست في اعتناق قيم يضن هو بنتائجها الإيجابية على غيره ويحتكرها لنفسه قبل أن يقبلها الآخرون أو يرفضونها، بل إن المشكلة هي مقاومة العدوان الذي كان المتحدث رمزا بارزا من رموزه وأن الغرب الذي يمثله ليس حريصا على قيم العالم الحديث لأنها تعني التقدم مثلا فهي لم تقدم لنا منه شيئا أصلا إلا إذا كان هذا الانسجام المطلوب مع هذا العالم يعني الاستسلام للهيمنة التي شاهدنا أسطع أمثلتها الفاقعة في احتلال العراق كما ارتكبها المتحدث نفسه والدليل أنه يشنّع على غيره حين يسعى للهيمنة، وهنا مشكلته، متناسيا أنه هو وغربه أساتذة الهيمنة نفسها ومحتكرو إنتاجها وممارستها رغم كونه اعترف بمسؤولية جزئية عن ردود الأفعال الانفعالية في بلادنا منذ غزو العراق.
ولهذا فإن استنتاج الزعيم مصطفى كامل باشا ما زال ساريا إلى اليوم: “امتياز” الانضمام إلى “المجتمع الدولي” يجر البلايا علينا بمنح الغرب فرصة للتدخل في شؤوننا تحت ستار المحافظة على استقلالنا في الوقت الذي ينهش فيه الغربيون هذا الاستقلال بنفس ذريعة المحافظة عليه.
إننا لن نحصل على الإنصاف قبل أن نتمكّن من المساهمة الفاعلة في صناعة هذا المجتمع الدولي لنفرض عليه شروطنا كما ساهم الغربيون من قبل فتحكّموا فيه حتى الآن وفرضوا عليه رعاية مصالحهم واحتكروا التصرّف فيه باسم “الإنسانية” (مجلس الأمن هو الفاعل الوحيد في منظمة الأمم المتحدة رغم كونها تتصرف باسم “الأمم”)، لا أن نكون مجرد بيادق للاستعمال والمصادقة على انتهاك حقوقنا.
الهوامش
[1]-بيتر مانسفيلد، تاريخ الشرق الأوسط، النايا للدراسات والنشر، دمشق، 2011، ص 110.
[2]-زين نور الدين زين، الصراع الدولي في الشرق الأوسط وولادة دولتي سوريا ولبنان، دار النهار للنشر، بيروت، 1977، ص 30.
[3]-مصطفى كامل باشا، المسئلة الشرقية، مطبعة اللواء، القاهرة، 1909، ج 1 ص 204
[4]- Robert A. Williams, Jr. The American Indian in the Western Legal Thought: The Discourses of Conquest. Oxford: Oxford University Press, 1992, p. 6.
[5]-أليكسيس دي توكفيل، الديمقراطية في أمريكا ، لجنة التأليف والترجمة والنشر، القاهرة، 1962، ترجمة: أمين مرسي قنديل، ج1 ص 431.
محمد شعبان صوان
تركيا بوست