أصبح حزب الله منخرطاً مباشرة في القتال ضد “داعش” والثوار السنة في سورية. ويفضي هذا الوضع إلى تصعيد التوتر بين الحزب وبين السنة فيالوطن. يدفع حزب الله ثمناً ثقيلاً نظير انخراطه في الصراع السوري. فعلى زوايا الشوارع في الضاحية الجنوبية من العاصمة اللبنانية، بيروت، وعلى جوانب الطرق في وادي البقاع، أصبحت صور المقاتلين القتلى من الحزب في سورية جزءً من المشهد اللبناني. وخلف حاجز الحانوت الصغير الذي تعمل فيه في منطقة الرويس، جنوب بيروت، تحتفظ فرح بصورة لخطيبها الذي كان قد قتل في العام 2014 بالقرب من دمشق. وتقول فرح التي لا تتلقى مساعدة مالية من الحزب، على عكس أرامل المقاتلين اللواتي يتلقين مالاً من حزب الله -ربما لأنها كانت مخطوبة فقط: “كان يذهب إلى سورية للقتال لمدة أسبوعين، ثم يعود إلى الوطن لمدة أسبوع للراحة قبل أن يسافر مرة أخرى إلى سورية. وغالباً ما كانت لديه مشاكل في عينيه وأذنيه بسبب الدخان والقصف. وقال أنه لا يستطع نسيان رائحة الدماء. كان ذلك شيئاً قاسياً، لكنني لم أعتقد أبداً أنه سيموت”. لكن دعم فرح لحزب الله لم يتغير. وتقول عن ذلك: “الكثير من المقاتلين يموتون. قتل سبعة من ضاحيتي وحدها. كان عليهم حماية أماكننا المقدسة، ولو أنهم لم يفعلوا ذلك، كان التكفيريون سيأتون ويهاجمون الشيعة في لبنان”.
كانت أكثر الهجمات إماتة منذ وضعت الحرب الأهلية اللبنانية أوزارها في العام 1990 هو ذلك التفجير الانتحاري المزدوج الذي وقع في منطقة مخيم برج البراجنة للاجئين الفلسطينيين التابع لمنطقة الضاحية الجنوبية من بيروت في شهر تشرين الثاني (نوفمبر) الماضي. وذكّرت السيارات المحترقة والجثث الملقاة في الشوارع الناس بأن معاقل حزب الله في لبنان أصبحت راهناً أهدافاً تحظى بأولوية لدى مجموعة الدولة الإسلامية “داعش”. ومنذ العام 2013، تعرضت المناطق التي يسيطر عليها حزب الله في بيروت والبقاع لنحو دزينة من الهجمات -من مجموعات تابعة لتنظيم القاعدة ومن “داعش”- وذلك رداً على الدعم العسكري الذي يقدمه حزب الله للجيش السوري (رسمياً منذ العام 2013).
وكان الأمين العام لحزب الله، حسن نصر الله، قد قال في العام 2013: “لسورية أصدقاء حقيقيون في المنطقة وفي العالم، والذين لن يدعوها تسقط في يد أميركا أو إسرائيل أو الجماعات التكفيرية”. وكان يشير بذلك إلى الثوار السوريين السنة الذي حملوا السلاح ضد نظام الرئيس السوري بشار الأسد. وأعاد نصر الله التأكيد على دعمه للنظام السوري الذي اعتبره من أعمدة “محور المقاومة” ضد إسرائيل بقيادة سورية وإيران. وبعد أيام قليلة، انخرط حزب الله بقوة في المعركة ضد الثوار على منطقة القصير المحاذية للحدود اللبنانية. وقد غير ذلك التطور ميزان القوى في وقت كانت القوات الموالية للأسد تخسر الأرضية بوضوح. وبفضل تدخل حزب الله، تمت استعادة منطقة القصير في غضون أقل من شهر. وأظهرت شرائط الفيديو لهذه الهزيمة المرة التي مني بها الثوار مشاهد المقاتلين الهاربين المتضورين جوعاً والظامئين إلى درجة أنهم كانوا يأكلون حبات البطاطا النيئة.
تقول شيارا كالابريز، الباحثة في شؤون حزب الله في المعهد الفرنسي لأبحاث العالم العربي والإسلامي: “في بداية الاحتجاجات المعادية للأسد، لم يشعر ناشطو (حزب الله) بأنهم معنيون مباشرة” في الصراع. لكن أجماعاً قوياً تشكل حول حزب الله نتيجة لتفسيره لاختطاف الحجاج اللبنانيين الشيعة في حلب في العام 2012، والتصريحات المعادية الصادرة عن المعارضة السورية، والتفجيرات في الضاحية. وأضافت كالابريز مستشهدة بالهجوم على مسجد السيدة زينب في جنوبي دمشق، الذي يعتبر وجهة حج شيعية رئيسية ويضم ضريح السيدة زينب: “بدأ حزب الله بالحديث عن الحاجة إلى حماية المواقع المقدسة الشيعية الواقعة تحت تهديد التدمير من جانب مجموعات ثائرة معينة”. وانتقلت كالابريز إلى القول: “ثم أصبح التدخل في سورية مشروعاً مقدساً، والذي استهدف هزيمة ما يراه حزب الله إسلاماً صحيحاً ضد مجموعات ثوار، مثل مجموعة الدولة الإسلامية”.
ومع ذلك، استمر نوع من عدم الرضا الهادئ لدى بعض الناشطين. وقبل ثلاثة أعوام، أعرب علي، المقاتل السابق الذي كان ابنه في حينه في سورية عن استيائه من تورط حزب الله، وقال: “لقد دعمت المقاومة دائماً ضد إسرائيل، لكنني لا أرى كيف يتم ربط الصراع السوري بهذا”. لكن إعلان مجموعة “الدولة الإسلامية” ما تسمى دولة “الخلافة” بعد استيلائها على الموصل في العراق أنهى تلك الاحتجاجات المتخاذلة. وأصبحت القواعد الشعبية لحزب الله مقتنعة بأن استدامتها تعتمد على قدرة الحزب على مساعدة النظام السوري على البقاء في السلطة. وكان أحمد، الذي قاتل في سورية من العام 2013، يفكر في التوقف عن القتال بعدما تعب من حرب المواقف على الحدود. لكن عنف “داعش” جعله يعيد النظر في موقفه. وقال: “من الضروري أن نحارب الإرهاب في سورية لمنع داعش من مهاجمة لبنان”. وشدد على دعمه لإيران وروسيا -وهما في رأيه البلدان الوحيدان اللذان يقاتلان الإرهاب الذي يدعي أن تركيا ودول الخليج والولايات المتحدة وإسرائيل تشجعه. وقالت كالابريز: “لقد استطاع حزب الله جمع داعش مع إسرائيل. وتأسس ذلك خلال غارة على مرتفعات الجولان في كانون الثاني (يناير) 2015. ولأنها قتلت أشخاصاً كانوا يقاتلون “داعش”، أصبح يُنظر إلى إسرائيل على أنه تجسيد لنفس العدو”.
يظل حجم الدعم لتدخل حزب الله قوياً بشكل عام في أوساط الطائفة الشيعية. ووفق دراسة أجرتها منظمة “هيا بنا” اللبنانية غير الحكومية في العام 2015 ومؤسسها لقمان سليم المعروف بوجهات نظره المنتقدة لحزب الله، فإن 78.7 من الشيعة اللبنانيين يدعمون الحزب. ولم يوقف عدد “الشهداء” البالغ نحو 1500 في الصراع عملية التجنيد. ويبدي الشباب تحمساً. وقال موظف في القطاع الثقافي في جنوبي لبنان أن الافتقار لفرص العمل في معاقل حزب الله الفقيرة جعل من المشاركة في التدخل أكثر جاذبية. وقال حسين الذي يقطن في أطراف الضاحية، والذي فقد صديقين في سورية: “عليك أن تتذكر أن حزب الله يشن أيضاً حرباً أيديولوجية. ثمة أطفال يستطيعون المشاركة في المخيمات الكشفية التي يديرها حزب الله، وعندما يبلغون سن 16 عاماً أو نحو ذلك، فإنهم يكونون قد تزودوا بمذاق القتال”. وقال أيضاً أن الحزب يقدم أيضاً فرصاً للمساعدة في تحسين الحياة اليومية: “إن حزب الله يخوض صراعاً مسلحاً، لكنه يجند العقول أيضاً. إنه يحتاج أشخاصاً يتوافرون على مؤهلات، صحفيين ومهندسين. وهو يدفع مقابل التعليم ثم يعرض عليهم وظائف”. ومع أن الصراع المطول أجبر الحزب على خفض الرواتب والمساعدات التي يقدمها لأعضائه، فإنه يظل جهة توظيف جذابة في بلد حيث الحد الأدنى للأجور يعادل 450 دولاراً، وحيث يشكل الاقتصاد الموازي 30 % من الناتج”.
من المعروف أن حزب الله يستمد شرعيته من مقاومته لإسرائيل وحلفائها، مما يحشد غير الشيعة إلى جانبه أيضاً، وخاصة منذ حرب “الثلاثين يوماً” في العام 2006. ومنذ صعود “داعش”، يستمر حزب الله في عرض نفسه على أنه لا غنى عنه. وهو يقدم نفسه على أنه ضامن الوحدة الإقليمية للبنان في وجه الجهاديين. وأثبت هجوم كانت قد شنته “جبهة النصرة” التابعة للقاعدة على نقطة عسكرية تقع إلى الجنوب من بعلبك أن حزب الله، وليس الجيش اللبناني، هو الذي يسيطر على الحدود. ووراء آخر نقطة تفتيش تابعة للجيش، فإن الناس الوحيدين الموجودين في الطرقات المتعرجة في الجبال المعادية للبنان هم المقاتلون الشيعة المتجهون إلى مواقعهم.
بحلول العام 2013، كان التعاون جلياً خلال هجوم الشيخ السلفي أحمد الأسير ضد الجيش في صيدا. فعندما فشلت الدبابات وأنظمة الاتصالات في وقف الهجوم، تدخل حزب الله. ويقول عماد، عضو القوات الخاصة اللبنانية: “لقد غطانا رماتهم البارعون”. وقال جنرال متقاعد: “كيف لنا العمل بغير ذلك؟ الجيش كان يعاني من نقص في الرجال والمعدات”. وسواء كانوا يؤيدون أو يعارضون أهداف حزب الله السياسية والدينية، فإن بعض اللبنانيين من غير الشيعة يرون فيه القوة الوحيدة القادرة على الوقوف في وجه “داعش”.
في هذا السياق، ينطوي قرار المملكة العربية السعودية يوم 19 شباط (فبراير) الماضي تعليق برنامج مساعدات للجيش اللبناني بقيمة 3 مليارات دولار على مغزى كبير. ففي نفس اليوم في منطقة السعديات، التي تبعد 20 كيلومتراً عن بيروت، اشتبكت قوات سنية مع قوة من سرايا المقاومة التابعة لحزب الله. وقال سليم الذي يعتقد أن هذه الحوادث يمكن أن تتكرر: “أغلقت العناصر السنية الطريق السريع المفضي إلى الجنوب، في رسالة موجهة لحزب الله، لأن نصر الله كان يؤكد دائماً أهمية المحافظة على محور هذا الطريق مفتوحاً للإبقاء على الرابط بين بيروت ومعقل الحزب في الجنوب. ومع استعادة الأسد اليد العليا في سورية بفضل التدخل الروسي والإيراني، شجبت العربية السعودية “قبضة حزب الله القوية على الدولة (اللبنانية)”.
كان أحد أسباب القرار السعودي هو رفض لبنان في كانون الثاني (يناير) الماضي دعم مشروع قرار لجامعة الدول العربية يدين سياسة إيران في المنطقة، ويعلن حزب الله تنظيماً إرهابياً. وبعد طردها رجال أعمال لبنانيين وحثها مواطنيها على تجنب السفر إلى لبنان، تريد العربية السعودية والدول الخمس الأخرى في مجلس التعاون الخليجي اللواتي صوتن لصالح مشروع قرار الجامعة العربية في آذار (مارس) الماضي الآن ممارسة الضغط على حزب الله الذي يشارك في الحكومة، ويسيطر على الحياة السياسية في لبنان. ويتضح ذلك من دور العربية السعودية المتمثل في الحيلولة دون تمكن مجلس النواب اللبناني من انتخاب رئيس جديد للبنان منذ العام 2014.
ربما يكون الصراع السوري قد قوى موقف حزب الله في لبنان، لكنه فاقم التوترات بين الطوائف. ويستخدم بعض السنة، ومعظمهم يدعمون المعارضة السورية، المزيد من اللغة المتطرفة. كما أن الافتقار إلى قيادة سنية قوية والاستغلال السياسي لهذا التطرف جعلا الوضع أسوأ. ويقول سليم: “في ظل هذه الظروف، ينطوي موقف حزب الله حول سورية على مشاكل كبيرة. هذا الموقف المتشدد يمكن أن يصبح أكثر خطورة مع تواجد أكثر من 1.5 مليون لاجئ سوري في البلد، كلهم تقريباً معادون لحزب الله”.
وكانت أحدث عقوبات تبناها الكونغرس الأميركي في العام 2015 قد وصفت حزب الله بأنه إجرامي بالإضافة إلى أنه تنظيم إرهابي. وقد أجبرت هذه الخطوة البنوك اللبنانية على رفض العملاء الذين لهم روابط مع حزب الله. ويقول سليم أن هذا التطور سيزيد الوضع سوءا، ويضيف: “من الصعب معرفة ما إذا كانت هذه الضغوط ستضعف حزب الله على المدى البعيد، لكن الكراهية ستزداد على المدى القصير بكل تأكيد”.
ماري كوسترز
صحيفة الغد الأردنية