تزامنت الذكرى الـ13 للاحتلال الأميركي لبغداد هذه السنة مع أعتى أزمة يمرّ بها النظام الذي أنشأه ذلك الاحتلال وورثته الهيمنة الإيرانية في تقاسم غير معلن للنفوذ، وما لبث تنظيم «الدولة الإسلامية/ داعش» أن اقتطع لنفسه نفوذاً آخذاً بالتقلّص ومتسبّباً بتدمير كل الحواضر السنّية التي سيطر عليها.
والأزمة الراهنة ليست منفصلة كليّاً عن تداعيات الاحتلال الأميركي، لأنها كشفت هشاشة المؤسسات التي أشرف على إقامتها، ثم انسحب قبل أن يكمل المهمة، وهذا مع افتراض أنه كان لديه تصورٌ واضح ومتكامل لما يجب أن تكون عليه دولة مستقرّة أمنياً وسياسياً واقتصادياً. فالأرجح أنه انسحب متخففاً من مسؤوليات كانت صعبة وأسهمت أجنداته في تعقيده، ثم ازداد صعوبة مع إقدام الوريث الإيراني على توجيه نظام بغداد وتوظيفه في خدمة مشاريعه الإقليمية. فكان أن تضافر الدوران الأميركي والإيراني، اللذان تساعدا لإسقاط استبداد صدّام حسين، في إعادة إنتاج الاستبداد من خلال دعمهما نوري المالكي وتفرّده بالحكم، وبالتالي في إنشاء البيئة الحافزة على ظهور الإرهاب.
لكن الأزمة الراهنة مرتبطة خصوصاً بتوحّش الفساد الممأسس داخل «دكاكين» الدولة التي توزّعتها أطراف الحكم في شبه إقطاعات طائفية ومذهبية، ما أدّى إلى تبخّر الموارد التي تفاقم شحّها مع هبوط أسعار النفط وازدياد حاجات الدولة للإنفاق على إعادة تأهيل قوى الجيش والأمن، بعدما أصبحت محاربة «داعش» أولوية الأولويات. ولم تنتبه عصابات الحكم إلى مدى سوء الأوضاع إلا بعدما تفجّرت «انتفاضة الكهرباء» منتصف الصيف الماضي، ثم تحوّلت إلى «انتفاضة ضد الفساد»، وهذه دشّنت ظهور محور «المرجعية- رئاسة الحكومة» حين أعلن حيدر العبادي عزمه على ضرب الفساد متخذاً عدداً من الإجراءات التي تخفّف أعباءً عن ميزانية الدولة، وسانده بل حضّه السيد علي السيستاني على الذهاب أبعد في «إصلاحاته»، غير أن الرجلين اصطدما بواقع أن تلك «الإصلاحات» تعني أولاً وأخيراً ضرب مصالح ومنافع نفوذ الأحزاب والميليشيات التابعة لها والتي أسست بتحريض ورغبة إيرانيين. وبالتالي فإن هذه الأحزاب، وأهمها حزب «الدعوة» – «ائتلاف دولة القانون» الذي ينتمي إليه العبادي، كانت الأكثر مقاومة للإصلاحات.
كان من نتائج تلك الانتفاضة الشعبية أن بدأ نوع من الفرز بين أحزاب «التحالف الوطني» (الشيعي)؛ إذ جهد «التيار الصدري» و «المجلس الأعلى» وأحزاب أخرى أقل حجماً للتمايز عن حزب «الدعوة» الذي هيمن منذ 2005 على الحكم ويعتبر الآن مسؤولاً عن الفشل التام الذي آلت إليه الدولة، واستتبع ذلك تمايز موازٍ بين ميليشيات «الحشد الشعبي» التي لم تعد خاضعة جميعاً لإيران، بل ارتبط بعضٌ منها بالمرجع السيستاني وبعضٌ آخر بالعبادي الذي يخطّط لدمجها بالجيش.
ويبدو أن استدعاء بغداد الأميركيين، استناداً إلى الاتفاق الأمني بين البلدين، للمساعدة في محاربة «داعش» أسهم واقعياً في تغيير بعض المعادلات الداخلية، (رغم «التفاهمات» الأميركية- الإيرانية). فعلى نقيض الإيرانيين الذين ركّزوا على الميليشيات لإضعاف قوى الجيش والأمن، عمل الأميركيون على تصحيح أوضاع هذه القوى ودورها، وفقاً لمتطلبات الحرب على الإرهاب، وأسهم وجودهم في تقوية موقف العبادي ودعم إصلاحاته واقتراحاته للتعديلات الوزارية، ما عنى التلاقي «موضوعياً» بينهم وبين السيستاني. في المقابل نشب شبه «حرب أهلية» بين المكوّنات الإيرانية داخل «البيت الشيعي»، وهي التي نرى تمظهراتها في التظاهرات والاعتصامات وغيرها.
عبدالوهاب بدرخان
صحيفة العرب القطرية