كانت العلاقات بين روسيا والولايات المتحدة سيئة أصلاً قبل عامين. وحتى قبل بدء المشاكل في أوكرانيا، كانت موسكو قد منحت حق اللجوء السياسي المؤقت لإدوارد سنودن، مسرب المعلومات المخابراتية في وكالة الفضاء الأميركية “ناسا”، بينما كانت الخلافات تتعمق بين البلدين.
وكان الرئيس الأميركي باراك أوباما ألغى زيارة لموسكو، لكنه وافق على حضور قمة مجموعة الـ20 في سانت بطرسبرغ. ولم تجر أي مباحثات ثنائية رسمية في حينه، لكن الزعيمين أجريا ما تبين لاحقاً أنه محادثة مهمة وموجزة أفضت إلى قيام بوتن بطرح مبادرته لتدمير الأسلحة الكيميائية السورية بهدف التخفيف من حدة الوضع لكل الجهات المعنية. ومع أن العلاقات الروسية الأميركية لم تتحسن نتيجة لذلك، فقد نقصت المشاكل التي يقلق بشأنها العالم واحدة.
ولم تستبعد واشنطن وموسكو احتمال اجتماع الزعيمين خلال زيارة الرئيس بوتين للولايات المتحدة هذا الشهر بمناسبة الدورة التالية للجمعية العامة للأمم المتحدة.
وإذا اجتمعا، فسيكون لديهما بند واحد مدرج على جدول الأعمال: سورية. وكان قرار روسيا الاستمرار في إرسال المعدات العسكرية والخبراء لدعم نظام دمشق قد وضع اللاعبين الآخرين في موقف حرج. وقد حذرت واشنطن روسيا من أنها تخاطر بمواجهة عزلة دولية إذا ما استمرت في دعم النظام السوري.
ومع ذلك، لم تكن القوى الغربية الأخرى صريحة إلى هذا الحد، حيث أعربت عن وجهات نظر تتفاوت بين “لا ‘رجال صغاراً خضراً’ في اللاذقية!” وبين “دعوا الروس يجربون -ربما يحققون نجاحاً أكثر مما حققنا”.
والملاحظ أن روسيا والولايات المتحدة لا تثقان ببعضهما بعضا إلى حد كبير راهناً. لكنهما تتفقان على أن “داعش” يشكل شراً محدقاً، وأن الحاجة تمس إلى تشكيل جبهة موحدة لمقاتلته. ولكن، لماذا لم تتشكل هذه الجبهة؟
أولاً، يستمر القادة في تصنيف “داعش” -من باب القصور الذاتي- على أنه تنظيم إرهابي، وبذلك يشيرون إلى الجهود المبذولة لمحاربته على أنها حملة معادية للإرهاب. وهذا ليس أفضل تعريف. فهو يستند إلى تطورات حدثت في أوائل الألفية الثالثة والقتال العالمي ضد الإرهاب الذي أعلنت عنه إدارة الرئيس الأميركي السابق جورج دبليو بوش -والذي قاد في نهاية المطاف إلى الفوضى العارمة الراهنة.
وبالإضافة إلى ذلك، ليس “داعش” تنظيماً إرهابياً في حد ذاته، وإنما هو إرهاب منظم ذو طبيعة وحجم جديدين. ويشكل الإسلامويون المتطرفون بقيادة أبو بكر البغدادي في الأساس رأس حربة عازمة على تدمير كل الهيكل المؤسساتي للشرق الأوسط. ولا يريد هؤلاء أن يعيدوا تشكيل المشهد الإيديولوجي للمنطقة وحسب، وإنما حكوماتها وأنظمتها السياسية أيضاً.
وفي ضوء التهديد شبه الوجودي الذي يشكله “داعش”، فإن من المعقول أن يحاربه أعضاء المجموعة الدولية بكل شيء تحتوي عليه ترسانتهم مجتمعة. لكن الغرب يستمر كما يبدو في النظر إلى الحالة من خلال منظور الحرب التقليدية ضد الإرهاب، في حين تبدو روسيا أكثر ميلاً نحو اتخاذ إجراء يخص الحرب داخل الدولة.
ثانياً، لا يتفق البلدان حول أي فرصة هناك لسورية للاستمرار بالهيكل نفسه الذي كان لديها في السابق.
ويشعر الغرب بالقلق أساساً حول من سيسيطر على سورية في المستقبل، ويفسر ذلك ميله إلى إزاحة الرئيس بشار الأسد وإجراء مباحثات حول اقتسام السلطة مع المعارضة، واستئناف عملية جنيف.. وهكذا.
مع ذلك، يبدو أن موسكو وصلت أخيراً إلى استنتاج مؤداه أن السؤال الأكثر جدية هو: ما الذي سيتبقى من سورية السابقة؟ وبالأساس، أصبح البلد منقسماً مقدماً إلى مناطق سيطرة مختلفة -أو فوضى عارمة- ومن الصعوبة بمكان الآن تصور إعادة بناء الدولة السابقة. ويثير هذا الوضع السؤال عن أي مجموعة أو منطقة يستطيع المجتمع الدولي أن يتحالف معها من أجل وقف “داعش” عن التقدم.
قبل تقرير كيفية إعادة بناء نظام السلطة الجديد في سورية وتحديد ترتيبات اقتسام السلطة التي يجب على الأطراف المختلفة تشكيلها بشكل حتمي، من الضروري أولاً توضيح أي جزء هو الذي سيبقى من النظام القائم حالياً.
في الوقت الحالي، وجهت موسكو الدعوة التي لا تخلو من المنطق إلى الحكومة السورية وقوى المعارضة المحلية لتشكيل ائتلاف، عبر الوسائل الدبلوماسية، من أجل الاستجابة للتهديد الخارجي الضخم المتمثل في “داعش” -وهو اقتراح يستطيع النجاح فقط إذا كانت الأطراف كلها راغبة في تنحية خلافاتها جانباً والتوحد الجدي ضد العدو المشترك.لسوء الطالع، لن يحدث هذا في سورية اليوم. فالسلطات الحاكمة والمعارضة يتمسكون بالمواقف العنيدة على حد سواء. وإذا أجبرتهما قوى خارجية على الدخول في ائتلاف، فإنه سرعان ما سينهار وربما يستولي “داعش” على دمشق نفسها.
ومع ذلك، فإن الحالة في المنطقة خطيرة جداً لدرجة أن الحاجة لعمل مشترك يجب أن تعلو فوق أي اعتبارات أخرى. وفي ضوء عدم قدرة أوروبا على وقف تدفق اللاجئين إليها، فإن المواطنين مستعدون لإيجاد أي حل بأي كلفة تقريباً -طالما كان هذا الإجراء سيتم خارج حدود أوروبا.
يستند موقف واشنطن إلى شبكة من الدوافع المتناقضة، وحيث البيانات والتصريحات العامة تتناقض غالباً مع الاعتقادات الفعلية. ولا ينبع رد الفعل السلبي القوي تجاه تحركات موسكو من الرغبة في إزاحة الأسد، بقدر ما ينبع من خشية أن تقوي روسيا موقفها في المنطقة.
بطبيعة الحال، يتصرف بوتين بطريقة تنسجم مع النمط، عبر اتخاذ قرار غير متوقع يبدل بشكل جذري ظروفاً تبدو غير قابلة للتبديل. ولا شك أنه يخوض مخاطرة كبيرة عبر المبادرة إلى شن حملة ضد “داعش” بحيث يصبح متورطا بعمق في مشاكل الشرق الأوسط.
هناك التهديد بوقوع خساشر روسية: ومن الصعب تصور كيف يمكن أن تستجيب موسكو إذا واجه أحد جنودها -لا قدر الله- المصير نفسه الذي واجهه الطيار الأردني (معاذ الكساسبة). فقدرات روسيا ليست كالأردن، ولا يمكن أن تترك هذا الهجوم من دون الرد عليه. لكن ذلك سيكون الطريق إلى التصعيد والتخندق. ولم يظهر الرأي العام الروسي تأييداً لتصعيد النشاط في الشرق الأوسط، ولكن: هل سيكون مستعداً للرد على إعدام علني لجنوده بيد قوات العدو؟
لا شك أن القرار بالمشاركة بطريقة أكثر فاعلية في الصراع السوري ينبع بشكل طبيعي من تصرفات سابقة لموسكو. فقبل عامين أو ثلاثة أعوام، تجاهلت روسيا انتقادات لاذعة لدعمها العنيد للأسد في وقت كان يبدو فيه آيلاً إلى السقوط.
وقال المنتقدون الأكثر اعتدالاً بشكل أساسي: “حسناً. أثبتم أنه لا يمكن فعل شيء من دون مشاركتكم. لكن الوقت حان الآن للبناء على ذلك النجاح عبر إبرام صفقة مع الغرب زغسل أيديكم من الأسد”. ولم يحدث ذلك، كما يعرف الجميع.
الآن قررت موسكو البناء على ذلك النجاح الأبكر بشكل مختلف -عبر إظهار قدرتها على تحطيم خطط الغرب حول سورية، وتغيير الوضع بفعالية أيضاً. والمعروف أن السياسة التقليدية تفضل الأفعال على الأقوال، لأن الأعمال وحدها يستطيع كسب النقاط وتعزيز الموقف. ومع ذلك، يمكن أن تقود الأفعال أيضاً إلى النتيجة المعاكسة.
ترجمة: عبدالرحمن الحسيني
صحيفة الغد الاردنية