من «الفراغ» الاستراتيجي إلى إرادة التوافق الإقليمي

من «الفراغ» الاستراتيجي إلى إرادة التوافق الإقليمي

6199-uso-nfl_stars-x

حين سينكفئ الوجود العسكري والسياسي الأمريكي عن الوطن العربي شادًّا رحاله نحو المجال الإقليمي الصيني، بما هو المجال الحيوي الأوّل في الرؤية الأمريكية الجديدة، ستنشأ- بمفردات اللغة السياسية الاستراتيجية- حالٌ من الفراغ في القوّة الدولية على صعيد منطقة «الشرق الأوسط». ولمّا كانت السياسة مثل الطبيعة، تخشى الفراغ- إِنِ استَعَرنا لغة أرسطو- ترتَّب على ذلك أن هناك من سيتقدّم لملء ذلك الفراغ الذي سينجم من الانسحاب الأمريكي من المنطقة. كيف ستكون الصورة، إذن، حينما سيحصل «الفراغ»، ومن عساهُ سينتدب نفسه لملئه؟
السيناريوهات، في هذا الباب، كثيرة ومختلفة، فقد لا يكون الانكفاء الأمريكي كاملاً بحيث يُحدث ذلك «الفراغ» المهول الذي يقتضي قوةً دوليةً كبرى لملئه، وبالتالي تظل الولايات المتحدة قادرة على إدارة الإقليم: منفردةً أو بشراكة مع أطراف إقليميين من حلفائها. وقد يكون الانكفاء كبيراً وشاملاً بحيث يترك «الفراغ» الذي يغري قوًى دولية كبرى بتغطيته بدعوى حماية المصالح الحيوية الاستراتيجية التي لها في «الشرق الأوسط». وفي هذا المشهد (السيناريو)، تَرِد إلى الذهن ثلاث قوى دولية كبرى هي: الصين، ودول الاتحاد الأوروبي، وروسيا، بحسبانها الأقوى- اقتصادياً وعسكرياً- في النظام الدولي الراهن، والأشدَّ ارتباطاً- في شبكة مصالحها- بمنطقة «الشرق الأوسط» وبمصادر الطاقة فيه على نحوٍ خاصّ. وفي هذا المشهد احتمالان: أن يتقدّم كلٌّ منها منفردًا، في مسعًى للسيطرة والهيمنة واحتكار دور الإدارة، أو أن تتقدّم جميعُها للسيطرة فتتصارع، ثم تنتهي إلى اتفاقٍ بتقاسُم النفوذ.

ما الذي سيحصل، إذن، مع وجود هذه الحال من الامتناع؟
التوقُّع في غاية الصعوبة مع وجود حالٍ من السيولة في وقائع التغيرات الجارية على علاقات القوى بين الدول الكبرى، ولكنّ الذي لا مجال للشك فيه أن الوطن العربي سيجد نفسه أمام ثلاثة مشاريع إقليمية كبرى في المنطقة، تُزَاحِمُه على النفوذ، وتهدّده – بدرجات متفاوتة – في أمنه واستقراره، وتفرض عليه تحديات عديدة. وهي مشاريع دائمة الوجود على تخوم ديارنا- وفي قلبها- في الأحوال كافة: سواء مُلِئ «الفراغ» دوليًا، أو تُرِك مَلْؤُه لقوًى إقليمية، أو نجحنا – نحن العرب – في ملئه أو المشاركة في ملئه. والمشاريع الثلاثة تلك هي: المشروع الصهيوني، والمشروع القومي التركي، والمشروع القومي الإيراني. وهي، جميعُها، تشترك في حيازة القوّة العسكرية، وفي كونها تصطدم – بهذه الدرجة أو تلك- مع مصالح الأمّة العربية دولاً ومجتمعات.

ما أغنانا عن القول إنّ المشروع الصهيوني هو الخطر الرئيس الذي يتهدّد الوطنَ العربي: أمناً واستقراراً وتقدُّماً وحقاً في حيازة القدرة الاستراتيجية الدفاعية عن الأمن القومي العربي. إنّه لا يغتصب أرضًا، هي فلسطين، ويضطهد شعبها ويشرّد نصفه في اللجوء والشتات فحسب، وإنما يحتل أجزاء من سوريا (هضبة الجولان) ومن جنوب لبنان، ويهدّدهما باستمرار، مثلما يهدّد أمن مصر والعراق والخليج والمغرب العربي ويتدخل لهندسة الحروب الأهلية ورعاية قواها، والإيقاع بين البلدان العربية لمنعها من التوحُّد، بل حتى من التعاون والتكامل مخافة أن يُخِلّ ذلك بالتوازن الاستراتيجي معه. وسِمَةُ هذا المشروع أنه برّاني، لا ينتمي إلى منطقتنا، ومزروع بالقوّة على حساب حقوقنا التاريخية. ولذلك فهو غير شرعي، والعلاقةُ به تقوم على مقتضى التناقض الوجودي الذي لا سبيل إلى محوه إلاّ بدحر ذلك المشروع الصهيوني عن فلسطين، كلّ فلسطين، وعن الوطن العربي. أما التسوية السياسية معه فوهْمٌ كبير أثبتتْه «كامب ديفيد» و«أوسلو» ومتفرعاتها، ناهيك بأنها تفريط في حقوق تاريخية للأمّة لا تملِك دولةٌ، أو نظام سياسيّ، أو سلطةٌ ذاتية، أو حركةُ تحرّرٍ التنازلَ عنها «باسم» الشعب أو الأمّة.
فيما خصَّ المشروعيْن الإقليميين التركي والإيراني، يختلف الأمر في العلاقة بهما قياسًا بالمشروع الصهيوني في نواحٍ عدّة. تركيا وإيران بلدان أصيلان في المنطقة وينتميان إلى الدائرة الحضارية الإسلامية، والعلاقة بهما- لهذا السبب -لا يمكن أن تُبنى على العداء معهما على الرغم مما بينهما والدول العربية من خلافات ونزاعات. نعرف، على التحقيق، أنّ تركيا عضوٌ في منظومة «حلف شمال الأطلسي» وتربطها علاقات وطيدة بالكيان الصهيوني تعثرت مؤخَّرًا ويجري التفاوض عليها، اليوم، بينهما. ونعرف أنها أوغلت في التدخل في الشؤون الداخلية للبلدان العربية؛ إمّا مباشرةً كما في سوريا والعراق، أو بشكل غير مباشر كما في مصر. ونعرف أنها ترعى مشروعًا إخوانيًا في المنطقة، وتحدّد سياستها تجاه حكوماتها انطلاقًا من مواقف هذه من جماعة «الإخوان المسلمين» فيها، مثلما ترعى مجموعات مسلّحة إرهابية، وتوفّر لها السلاح والتدريب والدعم اللوجيستي. ونعرف، في المقابل، أن إيران تحتل أجزاء من الأراضي العربية (جزر الإمارات الثلاث)، وتدعم بعض المعارضات المحسوبة عليها في المنطقة، وتستنفر سياساتُها الحساسيات المذهبية، وتلوّح بالتهديد العسكري ضدّ بعض بلدان الخليج العربية، وتَرْفَع برامجُها التسليحية الهواجس الجماعية حول الأمن الإقليمي الخليجي، وتستمرّ في العمل باستراتيجية «تصدير الثورة»…إلخ.

هذا كلّه، وغيرُهُ، معروف لدى الجميع في الوطن العربي: حكوماتٍ وشعوباً، ويُحدث الأسى والحسرة من سلوك بلديْن رئيسيْن في الجوار الإقليمي. ومع ذلك، لا مصلحة لنا، نحن العرب، في حسبان تركيا وإيران عدوَّين، وفي بناء العلاقات بهما على هذا المقتضى، ولا حتى في استعدائهما وتوتير أجواء الصلة بهما. إنّ الانزلاق إلى ذلك هو، بالذات، ما يريده الكيان الصهيوني لتزوير حقائق الصراع في المنطقة، واختراع «الصراع العربي التركي»، أو «الصراع العربي الإيراني»، أو «الصراع السّنى الشيعي»، بديلاً من الصراع العربي الصهيوني، قصد استنزافنا جميعاً: عرباً وأتراكاً وإيرانيين، بما يضمن التفوّق الصهيوني الساحق على الجميع. ولكننا، في الوقت عينِه، لا نقبل التفريط في حقوقنا المغتصبة (الجزر الثلاث الإماراتية)، كما لا نقبل المَس بأمننا الداخلي إمّا من سياسة «تصدير الثورة» أو من سياسة رعاية المشروع السياسي الإخواني، وما يقترن بالسياستين من وقائع التدخل السافر في الشؤون الداخلية للبلدان العربية. ما العمل إذن؟

لا بدّ من حوار سياسي صريح بين الدول العربية وإيران وتركيا: ثنائياً أو جماعياً، يتناول قضايا الخلاف كافة قصد معالجتها وكفّ يد الأجنبي فيها، من أجل علاقات تعاونٍ صحّية، تبني على المشتَركات الحضارية، وتحمي الأمن الإقليمي (العربي الإيراني-التركي) من الأخطار المحدقة الخارجية. لا بديل من السعي في هذا الخيار على صعوبته، لأنه الخيار الوحيد بين بلدان تتبادل الانتماء إلى دائرةٍ حضارية واحدة. وعليه، خرجت أمريكا من المنطقة أو لم تخرج؛ حدثَ «فراغٌ» بخروجها أم ملأهُ غيرُها، فإن هذا الإقليم إقليمُنا- نحن العرب والأتراك والإيرانيين- وعلينا أن نكون أسياداً على أنفسنا فيه، ولا ندعو غيرنا يديرُهُ من الأجانب. وحتى يكون ذلك ممكناً، لا بدَّ من الحوار والتفاهم.

عبدالإله بلقزيز

صحيفة الخليج