ناصر المقال الأخير لـ”ستيفن بيدل” و”جايكوب شابيرو” في مجلة “ذي أتلنتيك” بعنوان “لا يسع الولايات المتحدة القيام بالكثير بشأن تنظيم «داعش»” فكرة احتواء تنظيم «الدولة الإسلامية»، وتساءل عن قدرة الولايات المتحدة على تدمير الجماعة. وتكمن المشكلة الأولى مع هذا التحليل في كيفية تعريف الكاتبين لـ”تدمير تنظيم «داعش»”، إذ يقارنان بين المعركة غير المتبلورة ضد تنظيم «القاعدة» مع المعركة ضدّ تنظيم «الدولة الإسلامية»، ويناقشان كيفية اقتلاع جذور فكره الإرهابي وإصلاح المساحات غير المحكومة التي توفر ملاذاً له. وقد أدى ذلك بهما إلى الخلط مراراً بين تدمير تنظيم «داعش» بشكله الحالي كشبه دولة وبين المهمة الهائلة المتمثلة بحلّ “الحرب الأهلية السورية” والانقسام بين السنة والشيعة في العراق. ولكن على العكس من ذلك، فلو تمّ تعريف المهمة بشكل صحيح، لكان بإمكان الولايات المتحدة تدمير تنظيم «الدولة الإسلامية»، ولا بدّ أن تفعل ذلك.
ولا تعتمد هزيمة تنظيم «داعش» كدولة على إيجاد حلّ لسوريا كمشروع اجتماعي وتاريخي وثقافي وديني وخاص بالحكم، ناهيك عن القيام بالشيء ذاته مع العراق. ويتغذى تنظيم «الدولة الإسلامية» على الصراعات في كلا البلدين ويجعل الوضع أسوأ في كلّ منهما. ولكن هل من الممكن هزيمة تنظيم «داعش» كـ “دولة” وكـ “قوة” عسكرية واقتصادية – أي التعامل مع الجزء الذي يشكّل تهديداً حقيقياً – دون الاضطرار إلى حلّ الأزمتين السورية والعراقية أو القضاء على «داعش» كمجموعة من الخلايا الإرهابية أو كمصدر إلهام أيديولوجي؟ وبطبيعة الحال، حتى لو تمّ تدمير تنظيم «داعش» كدولة، سنستمر في مواجهة “الحرب الأهلية السورية” والشقاق العراقي، ولكن لدينا الآن كل ذلك إلى جانب تنظيم «الدولة الإسلامية»، الذي يطرح تحدياته الخاصة في المنطقة والغرب.
وبشكل طبيعي، إذا ما اختار أحد عدم تجاهل مشكلة تتعلق بالسياسة الخارجية، يتمثل خياراه بما يلي: حلّ المشكلة (الذي يعني في حالة تنظيم «داعش» هزيمته وتدميره، وفقاً للسياسة الأمريكية الرسمية) أو احتوائه. ويتمّ الاختيار على أساس تحليل التكاليف والمخاطر المحتملة للقضاء على المشكلة مقابل مخاطر التعايش معها، فضلاً عن تحليل تأثير الخيار على الاهتمامات الأوسع نطاقاً. ومن كلا وجهتي النظر فإن حجج بيدل وشابيرو معيبة ومضللة.
وباعتراف الجميع إنّ تكاليف تدمير تنظيم «الدولة الإسلامية» كحركة أيديولوجية جهادية وفلوله المتمردة (أي ما كان في العراق قبل عام 2014)، ناهيك عن “إصلاح” سوريا والعراق، عالية جداً كما يذكر ذلك بيدل وشابيرو مراراً وتكراً. ولكنّ هذه ليست المهمة أو لا ينبغي أن تكون. يجب أن تتمثل المهمة بسحق تنظيم «داعش» كدولة وكقوة عسكرية واقتصادية. وهذا تحدٍّ مختلف وأكثر استجابة بكثير للقوة العسكرية التقليدية. وسبق أن حققت القوات المحلية، مع حدّ أدنى من الدعم الأمريكي غير المباشر، تقدماً بالفعل في بعض المناطق، من بينها الشدادي في سوريا مؤخراً، والرمادي في العراق. وأصبح لـ تنظيم «الدولة الإسلامية» الآن جنود مشاة أقل من أي وقت مضى منذ عام 2014، وأصبح يواجه مشاكل في سداد مستحقاته كما أشار الكاتبا،.
ومن شأن تقديم حزمة أقوى بكثير من الدعم غير المباشر تضم المستشارين والمدفعية وطائرات الهليكوبتر الهجومية والمزيد من الهجمات التي تقوم بها القوات الخاصة، وحتى قواعد اشتباك أكثر ليبرالية للغارات الجوية من تلك التي اعتُمدت مؤخراً (تطبيق اللا مركزية في قرارات توجيه الضربات، وقبول مخاطر أعلى بقليل من الضحايا المدنيين، واستخدام المزيد من القوة الجوية والقنابل الأكثر قوة) أن يحقق انتصارات أكبر سرعة. كما يمكن إحراز تقدم أسرع من خلال التزام محدود بنشر قوات برية أمريكية – لواءين يضمّ كل منهما 5 آلاف جندي، معززين بقوات من بلدان حلف شمال الأطلسي الأخرى مع حلفاء محليين. ومن شأن مثل هذا الالتزام أّن يكمّل القوات الأمريكية المتواجدة في العراق حالياً والتي يبلغ عددها حوالى الخمسة آلاف عنصر، والتي تقوم بتدريب القوات المحلية والعناصر الـ 250 من قوات العمليات الخاصة الذين تمّ إرسالهم مؤخراً إلى سوريا. وبالتالي، يمكن لتعديل بسيط على الدعم الأمريكي الحالي غير المباشر (الذي يجري تحضيره حالياً)، وبالتأكيد دعم أمريكي قتالي مباشر محدود أيضاً، أن يدمّر تنظيم «داعش» بسرعة نسبياً كـ “دولة” وكـ “جيش”. ومن شأن ذلك أن يخلّف “مشكلة مستقبلية”، ولكنه سيحلّ معضلة «داعش» كدولة.
لقد تعاملت الولايات المتحدة، على الأقل في بعض الأحيان، بشكل فعال مع “مشاكل مستقبلية” مماثلة بدون حضور كثيف لقواتها، بدءاً من شمال العراق بعد حرب الخليج عام 1991 ووصولاً إلى كوسوفو، والسلفادور، وكولومبيا. ولكن حتى الوضع الفوضوي ما بعد تنظيم «الدولة الإسلامية» هو أفضل من الاحتواء، نظراً للأخطار والتكاليف المحيطة بالخيار الثاني. وهذه هي الأمور التي يتجاهلها الكاتبان إلى حدّ كبير وينبغي النظر فيها ومقارنتها بتكاليف تدمير دولة تنظيم «داعش».
وتبدأ تكاليف الاحتواء بحملة عسكرية ضخمة، من حيث الوقت (مضى حوالي عامين حتى الآن ولا تلوح نهاية في الأفق)، والقوات (الآلاف من القوات البرية الأمريكية، ومساهمات كبيرة من التحالف، ومئات الآلاف من القوات النظامية العراقية والقوات غير النظامية العراقية والسورية)، والمال (7 مليارات دولار حتى الآن، مع المزيد من المليارات التي ينفقها العراقيون)، لمجرد “احتواء” تنظيم «الدولة الإسلامية» وإضعافه ببطء.
وفي الوقت الحالي، يتسبب الحفاظ على القوات والتعامل مع الملايين من المشردين داخلياً بإفلاس الدولة العراقية (و«حكومة إقليم كردستان») وتوليد الكثير من الاضطرابات السياسية. وإذا بدأت هاتان الحكومتان بالانهيار، ستنهار معهما أي استراتيجية “احتواء”.
وأخيراً، عادةً ما تتفاقم المشكلة إذا لم يتم التعامل معها، وخاصة في منطقة الشرق الأوسط. فقد ولّد عدم التنبه لـ “الحرب الأهلية السورية” إلى قيام تنظيم «الدولة الإسلامية» في نهاية المطاف، وأزمة الهجرة التي تجهد أوروبا، والتدخل الروسي المثير للقلق.
وإلى حين يتم تدمير تنظيم «داعش» كدولة، فسيستمر في الحفاظ على إمكانية شن هجمات إرهابية مروعة، والتسبب بحدوث انهيار سياسي في بغداد أو بين الأكراد العراقيين، بل ويؤدي أيضاً إلى الانزلاق نحو صراع إقليمي بين السنة والشيعة، إذا استهدفت إيران الشيعية تنظيم «الدولة الإسلامية»، وبالتالي هددت أراضي العرب السنة التي يعشش فيها التنظيم. (وبإمكان فلول «داعش» الاستمرار في التهديد بشنّ هجمات إرهابية، ولكن ليس بالحجم نفسه أو بالنتائج الجيواستراتيجية المماثلة.)
ويتمثل الاعتبار الثاني لأي قرار بشأن كيفية التعامل مع مشكلة تتعلق بالسياسة الخارجية، بتأثيره على العلاقات الخارجية الأوسع. فعلى سبيل المثال، اختارت الولايات المتحدة في عام 2007 عدم الرد بنفسها على مشكلة المفاعل النووي السري السوري في موقع “الكبر”، الذي دمرته إسرائيل في غارة جوية في ذلك العام. ولم يكن سبب ذلك أنّ الخطوة الأمريكية أقل خطورة من الهجوم الإسرائيلي، ولكن واقع أنّ “سجلّ” الولايات المتحدة في الشرق الأوسط كان حافلاً بحربيْن، بالإضافة إلى المفاوضات بشأن البرنامج النووي الإيراني والصراع الإسرائيلي الفلسطيني. ولكن اليوم، وبعد فشل أوباما في عام 2013 في فرض “الخط الأحمر” الذي فرضه بنفسه ضدّ استخدام الأسلحة الكيميائية في سوريا من قبل قوات الرئيس السوري بشار الأسد، تحتاج الولايات المتحدة إلى بناء مصداقيتها من خلال الرد على التهديدات باستخدام القوة لمواجهة دول مثل إيران، وروسيا، والصين، وكوريا الشمالية التي تهدد النظام العالمي القائم. وأفضل مكان لبناء هذه المصداقية هو الحرب ضدّ تنظيم «الدولة الإسلامية»، حيث تتيح أقصى فرصة للنجاح مع خطر أقلّ بالتصعيد.
وأخيراً، كانت حجج بيدل وشابيرو ستبدو معقولة أيضاً لو قُدّمت ضدّ تدخل الرئيس الروسي فلاديمير بوتين في سوريا. ولكن بوتين مضى قدماً، مع جزء من القدرات الدبلوماسية والعسكرية الأمريكية، وحقق نصراً محدوداً بل مهم، وتجنّب “المستنقع” الذي توقعه الرئيس أوباما. وتقولون إنّ الولايات المتحدة لا تستطيع القيام بذلك؟
جيمس جيفري
معهد واشنطن