كانت الخلافات التاريخية بين القياصرة والدولة العثمانية على أشدها، وكان من المفترض أن تبدأ الدولتان مرحلة جديدة من العلاقات السياسية، بعد زوال كلا النظامين في الدولتين، بنشوء النظام الجمهوري في روسيا وتركيا، وهو ما حصل فعلاً في البداية.
لكن كلا الدولتين أصبحتا في حلفين عسكريين متناقضين إن لم يكونا متحاربين منذ منتصف القرن العشرين الماضي، فروسيا في حلف وارسو وقائدة له، وتركيا في حلف الناتو وفي الجبهة الشرقية لأوروبا، في مواجهة أي غزو للاتحاد السوفييتي باتجاه اوروبا الغربية، ومع ذلك لم تنقطع العلاقات الروسية التركية، رغم كل مظاهر الحرب الباردة، بل كانت العلاقات الاقتصادية والسياحية بين البلدين متواصلة، وبعد انهيار الاتحاد السوفييتي الشيوعي الاشتراكي، ووصول حزب العدالة والتنمية إلى السلطة السياسية في تركيا، أخذت العلاقات السياسية والاقتصادية بينهما بالتحسن، وطمعت كلتا الحكومتين إلى تحقيق حالة من التحالف بين الدولتين، فحلف وارسو انهار رسميا، وتركيا لم تعد تحت الهيمنة الغربية السابقة، إما بسبب رغبة حكومة العدالة والتنمية بالاستقلال في إدارة شؤون تركيا سياسيا واقتصاديا، وعدم الخضوع للإملاءات الغربية في تحديد علاقاتها السياسة مع روسيا وإيران والشرق عموماً، أو بسبب عدم حاجة حلف الناتو الغربي للجبهة الشرقية في تركيا كالسابق.
ومع ظهور التغيرات السياسية في البلاد العربية و«الربيع العربي»، فقد كان من المتوقع أن تزداد رؤى كلا الدولتين في تأييد حقوق الشعوب العربية وغيرها، في بناء دولها بطرق ديمقراطية وإنهاء مرحلة الاستبداد المصاحبة للظلم والفساد في معظم الدول العربية، وبالأخص الدول التي انفجرت فيها الاحتجاجات الشعبية العربية، ونجحت في إسقاط بعض الأنظمة السياسية، ولكن ما حصل أن القيادة الروسية قرأت في أحداث «الربيع العربي» خطرا على مصالحها الاقتصادية في بعض الدول العربية، التي كانت تدعي تحالفها مع الاتحاد السوفييتي وروسيا الاتحادية تاريخيا وسياسيا، بينما كانت الخسائر الروسية حقيقة في مجال المبيعات العسكرية الهائلة أولاً، وخسارة معنوية بزوال من يرفع راية العداء لأمريكا، ولو إعلامياً، مثل القذافي، وعلي عبدالله صالح، وبشار الأسد، ولذلك لم تدافع روسيا كثيراً عن سقوط حسني مبارك المحسوب أصلاً على امريكا، بينما تدعي روسيا أنها خدعت في عملية إسقاط القذافي، ولذلك دافعت عن بشار الأسد ولا تزال تمانع في إسقاطه ورحيله، إلا بضمان مصالحها وديونها الكبيرة، ووجودها العسكري على الساحل السوري في قاعدة طرطوس العسكرية. بينما كانت السياسة التركية تأييد مطالب احتجاجات الشعوب العربية، طالما بقيت وسائلها سلمية وديمقراطية، ورفضت الحكومة التركية لجوء أحداث «الربيع العربي» إلى العنف، سواء كان من المحتجين أو من الأنظمة السياسية نفسها، ولذلك وقفت الحكومة التركية ضد بشار الاسد بسبب اسرافه ومغالاته في استخدام العنف، وممارسة سياسة المجازر والإبادة البشرية ضد شعب لم يكن في البداية يطالب بسقوطه، وإنما بالاصلاح السياسي والاقتصادي والاجتماعي وغيره.
لقد ساء الحكومة التركية كثيرا أن تقف الحكومة الروسية إلى جانب بشار الأسد ومحوره الإيراني الطائفي ضد الشعب السوري، وساءها أكثر ان ترى روسيا وهي تدعم بشار الأسد بالسلاح الفتاك الذي يقتل به الشعب السوري، وحاولت الحكومة التركية في عهد اردوغان وهو في رئاسة الوزراء أن يثني الرئيس بوتين عن دعم بشار في عمليات القتل، وان يطالبه باستعمال قوته السياسية الدولية في تطبيق اتفاق جنيف1، الذي دعا إلى تشكيل هيئة حكم انتقالية كاملة الصلاحيات منذ منتصف عام 2012، ولكن روسيا وقفت مرة أخرى في رفض هيئة الحكم الانتقالي كامل الصلاحيات، وتمسكت ببقاء الأسد في الحكم مع الدعوة الروسية إلى تشكيل حكومة وحدة وطنية من النظام والمعارضة التي توافق المسار الروسي.
ورغم ما بدا أن الموقف الروسي مغاير للموقف التركي، إلا أن الحكومة التركية لم تتوقف مساعيها لإقناع موسكو بالعدول عن دعم رئيس قاتل لأكثر من ثلاثمائة مواطن سوري حتى ذلك التاريخ، بل وأثناء اجتماع الرئيس أردوغان مع الرئيس الروسي في موسكو في حفل افتتاح مسجد موسكو الكبير بتاريخ 23/9/2015 مع الرئيس الروسي بوتين، اتفق الرئيسان على تشكيل لجنة ثلاثية روسية أمريكية تركية لمتابعة الوضع المتأزم في سوريا، والعمل لإيجاد رؤية لحل سياسي ينهي الأزمة السورية كما أعلن ذلك الرئيس التركي أردوغان، بعد اللقاء مع بوتين، ولكن الرئيس الروسي بوتين فاجأ الجانب التركي بتدخله العسكري المباشر بعد أسبوع واحد من ذلك اللقاء، وقد بدأت الطائرات الحربية الروسية بقصف أماكن المعارضة السورية التي تدعمها الدول العربية وتركيا، والتي قبل بها المجتمع الدولي ممثلا للشعب السوري.
وهكذا شعر الموقف الرسمي التركي بأن القيادة الروسية تخاطب القيادة التركية بوجهين أحدهما يريد ان تبقى تركيا حليفا اقتصاديا لروسيا في شراء الغاز الروسي وتبادل اقتصادي كبير في ظل عقوبات دولية على روسيا بسبب القضية الأوكرانية، وبوجه آخر لا يتوافق مع السياسة التركية نحو سوريا والعديد من القضايا الدولية، ومنها احتلال روسيا للقرم وأراض من جمهورية أوكرانيا من خلال دعم روسيا للأقاليم الانفصالية المحاذية لروسيا، ورغم عدم قناعة تركيا بأحقية المواقف الروسية من هذه القضايا، إلا أن الحكومة التركية لم تقطع قنوات اتصالها وتعاونها مع الحكومة الروسية.
ولكن ما لم يعد محتملاً هو تزايد اعتداءات الطائرات الروسية للأجواء التركية، سواء كانت بالخطأ أو بتعمد وقصد روسي، يهدف إلى الضغط على الدولة التركية بتقبل أو السكوت على الإجرام الروسي الذي يقصف ويقتل الشعب السوري بكل همجية وعنف، لا تملك القيادة الروسية حق ممارسته في سوريا، بحكم وجود خلاف داخلي بين أطراف متصارعة في سوريا، فروسيا كدولة عظمى مطالبة ان تعمل سياسياً وبحياد لإيجاد حل للأزمة السورية فقط، ولا يحق لها ان تتدخل بقوة جيشها وطيرانها الحربي لصالح أحد الأطراف، فكيف إذا كان تدخلها لصالح رئيس قتل من شعبه مئات الألوف واعتقل مثلهم وشرد الملايين داخل سوريا وخارجها، ولذلك ومع إدراك الحكومة التركية لدواعي الاعتداءات الروسية للأجواء التركية، وأنها تهدف إلى منع تركيا من معاداة الرؤية الروسية في سوريا، فقد قامت هيئة الاركان التركية بتحذير نظيرتها الروسية بعدم انتهاك الأجواء التركية مهما كانت الأسباب، ولكن الطائرات الروسية لم تستجب للتحذيرات التركية حتى تم اسقاط طائرة سوخوي24 روسية، بعد ان رفض طاقم الطائرة الروسية الاستجابة لمطالبة تركية بضرورة الخروج من الأراضي التركية، مما تسبب بمقتل أحد الطيارين الروسيين، فاتخذ بوتين من القضية ذريعة لتحركات مريبة وعدوانية وغير مبررة ضد تركيا.
لم تكن قضية إسقاط الطائرة الروسية المعتدية على الأجواء التركية الشعرة التي قصمت ظهر البعير، لأن التحركات العدوانية الروسية ضد تركيا لم تتوقف عبر التاريخ، بل كانت الأكثر ظهوراً في التاريخ من الحاضر، ولكنها لم تكن تؤدي في الغالب إلا إلى خسائر متبادلة للشعبين الروسي والتركي، والحاضر شاهد على التاريخ، مما يغني عن تكرارها. لقد حفظ التاريخ ذكريات روسية السيئة ضد تركيا، ومنها مشاركة وزير الخارجية الروسي القيصري سيرجي زاسونوف الذي كان ثالث وزير خارجية متورطا في تقسيم الدولة العثمانية أثناء الحرب العالمية الأولى، مع وزير خارجية بريطانيا وفرنسا سايكس وبيكو ، فقد انتدبه القيصر نيقولا الثاني لتمثيل روسيا في مباحثات تقسيم الدولة العثمانية، وكان من اخطر الحصص في هذا التقسيم هو الحصة الروسية، حيث كانت حصة روسيا السيطرة على مدينة اسطنبول، وعلى كردستان، وأجزاء أخرى من تركيا، اضافة الى جزء من مدينة القدس، ولكن قيام الثورة البلشفية وسقوط القيصر وحكومته ونهاية الحقبة القيصرية حال دون مواصلة روسيا لمساعي احتلال اسطنبول، فحاولت بريطانيا وفرنسا أخذ حصة روسيا في تركيا، فدخلتا في حرب مع الدولة العثمانية لاحتلال اسطنبول، وخسرتا معركتهما مع الجيش العثماني في معركة جناق قلعة وغيرها عام 1915 وبعدها، وفي ذلك الحين قاتل العرب السوريين واللبنانيين والمصريين والشركس والكرد والأتراك في تلك المعركة حتى الانتصار فيها، وتقديم الألوف من الشهداء.
فالتاريخ شهد معارك وحروب وتدخلات روسيا في شؤون الدولة العثمانية، وقد يكون من اخطاء الرئيس الروسي بوتين المعاصرة ان يعيد سياسة التدخلات الروسية في البلاد العربية والإسلامية، وكما فشلت الجهود السابقة في النيل من اسطنبول والأراضي التركية، فإن الجهود المعاصرة لن تكون احسن حالاً، فالقوة العسكرية قد تستطيع تغير معالم معركة لبضعة أشهر أو سنوات ولكنها لا تستطيع أن تغير هوية منطقة أو بلد او دولة، لأن الأرض لأهلها الأحياء، وطالما وجد شعب فلسطيني أو سوري أو تركي أو غيرهم، فإن أراضيهم ومدنهم وبلادهم هي لهم، مهما دخلتها جيوش الاحتلال الأجنبي الصهيوني او الإيراني او الروسي.
محمد زاهد غول
صحيفة القدس العربي