لم تكن العلاقة بين ما هو سياسي وما هو عسكري في العراق وأيضاً في سوريا وثيقة الصلة كما هي اليوم. المشهدان العراقي والسوري صارخان وكاشفان إلى أبعد حد من منظور كيف يوظف ما هو عسكري لصالح ما هو سياسي.
وإذا كانت معركة تحرير مدينة الفلوجة البطلة وضواحيها هي الشغل الشاغل الآن لأسباب كثيرة أبرزها أنها محطة ما قبل تحرير الموصل من احتلال التنظيم الإرهابي الداعشي، فتحرير الفلوجة سيمثل سقوطاً محتوماً ل«داعش» في الموصل، ويؤشر بوضوح إلى أن عصر «داعش» في طريقه إلى الاختفاء في العراق بعد أن أدى دوره كاملاً، وربما تكون النتيجة هي نفسها في سوريا على ضوء تزامن عمليات تحرير الفلوجة والموصل في العراق مع عمليات تحرير الرقة في سوريا التي هي كلها أهم معاقل «داعش» في «العراق والشام».
فقبل أن تبدأ العمليات العسكرية لطرد عصابات «داعش» من الفلوجة، كانت الأزمة السياسية في العراق قد وصلت إلى طريق مسدود، بعد أزمة تشكيل الحكومة ومن بعدها أزمة رئيس البرلمان، ومن بعدها اقتحام المعتصمين للمنطقة الخضراء للمرة الثانية والاعتداء على البرلمان ومبنى الحكومة وخاصة مكتب رئيسها ما دفع قوات الأمن إلى الصدام معها ومن ثم وقوع عدد كبير من الإصابات.
هذه الاقتحامات كانت صدمة سياسية كبرى منعت أياً من القيادات الحزبية والسياسية من التجرؤ بإعلان دعمها لها، أو إظهار أنه كان المشجع عليها، وحده مقتدى الصدر الذي كان الملهم لموجة الاعتصامات الأولى التي اعتدت على المنطقة الخضراء هو الذي انتظر حتى انسحاب المتظاهرين من داخل المنطقة الخضراء بعد تلك الاقتحامات ليصدر بياناً شن فيه هجوماً لاذعاً وغير مسبوق على الحكومة محذراً إياها من مصير صدام حسين ومعمر القذافي، ودعا المتظاهرين إلى «الصبر، وإنهاء الطائفية والمحاصصة والفساد والإرهاب».
خطاب الثورة وتحديد أهدافها بإنهاء الطائفية والمحاصصة والفساد والإرهاب على نحو ما ورد على لسان الصدر لم يكن له غير معنى واحد هو أن الأزمة السياسية لم تعد في حاجة إلى حلول عضوية أو حتى توافقية لمعالجتها بل إلى حلول جذرية أقلها العودة مجدداً إلى فتح ملف أزمة الدستور الذي هو أصل كل الداء الذي أجبر العراق على تجرعه على أيدي الاحتلال وأعوانه.
معنى ذلك أن قرار اقتحام القوات العراقية للفلوجة بكل ملابساته جاء في وقته بعد أن وصلت الأزمة السياسية إلى طريق مسدود لكنه رغم ذلك سيفتح أبواباً أخرى لأزمات لا حدود لها أبرزها مستقبل مشروع تقسيم العراق، من خلال تفجير السؤال الأصعب وهو مستقبل ما سوف يؤول إليه الحكم في الفلوجة والموصل بعد تحريرهما على ضوء الدخول الأمريكي القوي في إدارة الحرب والحرص الإيراني على إبراز وجود الجنرال قاسم سليماني وإظهاره أنه من يخطط ومن يقود معارك الفلوجة، فضلاً عن استماتة قوات الحشد الشعبي على أن تكون شريكاً في عملية التحرير، فضلاً عما ما يتردد من أن مشروع «داعش» يندرج في إطار مسعى أمريكي تتشاطره دول إقليمية، ويتمثل بتقسيم العراق إلى أقاليم على غرار إقليم «كردستان / شمال العراق» على نحو ما تحدث جون بايدن نائب الرئيس الأمريكي أكثر من مرة مؤكداً أن «تقسيم العراق هو الحل».
السؤال المهم الذي يفرض نفسه بهذا الخصوص يتعلق بمصير محافظات السنة في العراق بعد تحريرها من «داعش»، وهل التحرير سيفتح ملف التقسيم وله ما يدعمه بما يحدث في سوريا بالتزامن مع ما يحدث في العراق، ونعني تزامن معارك تحرير الرقة على أيدي قوات «سوريا الديمقراطية» بدعم وقيادة أمريكية مع عمليات تحرير الفلوجة، والدور الأمريكي فيها، والاستعدادات التي تجري لتحرير الموصل.
أحد العناصر القيادية في هذه القوات تحدث بوضوح عن الخلفيات السياسية لمعركة الرقة التي تقوم بها قوات «سوريا الديمقراطية» بمشاركة قوات أمريكية برية للمرة الأولى في تاريخ الأزمة السورية. وقال إنه «في حال سيطرت قوات سوريا الديمقراطية على مدينة الرقة فإن هذا سيكون فاتحة للانفتاح الدولي التام للاعتراف بالمنهج والحل الفيدرالي لسوريا المستقبل». موضحاً أن «العلاقة بين الرقة (في سوريا) والموصل (في العراق) كالعلاقة بين القلب والجسد».
تصريحات لها معناها تكشف أن تحرير الرقة والموصل في سوريا والعراق من «داعش» قد لا يكون نهاية المطاف، بل ربما يكون بداية المرحلة الأخطر من تاريخ الصراع الدائر في العراق وسوريا أي صراع إعادة ترسيم الخرائط الذي هو الصراع الأصلي ومحور الدور الذي أنيط ب«داعش» لتحقيقه.
د.محمد السعيد إدريس
صحيفة الخليج