الفلوجة: حرب تقرير مصائر

الفلوجة: حرب تقرير مصائر

349
جاءني صوته متهدّجاً عبر الهاتف، وكأنه في تهدّجه يعكس حال حرب “تحرير الفلوجة” التي دخلت أسبوعها الثالث، قال لي إنه يُتوقع أن تتناسل هذه الحرب في قابل الأيام فصولاً، وأن تكون واحدة من الأحداث الكبرى التي سوف تسهم في رسم مستقبل العراق، وربما مستقبل المنطقة كلها عقوداً أطول. ذكّرني كلامه بمقولة للروائي التشيكي، ميلان كونديرا، من أن هناك ثمة تواريخ عظمى تهز العالم، وقد تحدّد مصائر دول وشعوب، كونديرا أعطى أمثلة من الماضي: الحربين العالميتين، والحرب الباردة، والحروب الأهلية التي شهدتها أوروبا، وفكّرت لو أن كونديرا تعرف عن قرب على الحروب التي خاضتها وتخوضها مدينة الفلوجة في تاريخها المعاصر لأضافها إلى قائمته تلك.
عدت الى محدثي، لأساله عما يراه، ليس لأنه على مقربةٍ من ميدان الحدث فحسب، بل ولأنه أحد أبناء المدينة، وإنْ كان انقطع عنها زمناً، قال: “تبدو لي الحرب الماثلة، وكأنها تجري في سياقٍ مختلف عما شهدته “حروب” العراق المحلية، على امتداد دزينة السنين العجاف التي مرت على العراقيين، وباختلاف تام عن الحربين اللتيْن خاضتهما الفلوجة من قبل، في هذه الحرب اختلطت الشعارات والصور، والمواقف أيضاً، حتى ليصعب على المراقب المحايد أن يطرح رؤية محددة، لما يمكن أن تشهده الفلوجة، والعراق أيضا، في اليوم التالي”.
تابع: “كل طرف من الأطراف الداخلة في الحرب أو المتداخلة معها يقدّم رؤيته من منظار مصلحته أو موقفه، ويقرنها، في أحايين كثيرة، بما يتمنى أن تصير عليه الوقائع، وكل طرف يسعى إلى أن تكون الغلبة له في تحقيق منجزٍ على الأرض، يضمن له الاستئثار بما يمكن أن تعطيه عملية “التحرير” من نفوذٍ سياسي. ولذلك، نلاحظ طوفاناً من الأخبار والتقارير التي تفتقر إلى الدقة، وربما المصداقية، وطوفاناً آخر من الصور والفيديوهات المنتجة بهدف التضليل أو الإثارة في بعض القنوات الفضائية ووسائل التواصل الاجتماعي التي تلعب دوراً شريراً في تكييف الحدث، وتسويقه على وفق ما يشتهيه أهل الوسيلة الإعلامية وأتباعها”.

عاد محدّثي ليذكّرني بأنه، مذ سقطت الفلوجة في قبضة “داعش”، مطلع عام 2014، أصبحت ميداناً لتقاطع كل تلك الحسابات، وبعضه شرير يريد من الفلوجة أن تكون بؤرة اختبار لمشاريع وخطط يجري طبخها على نار هادئة حيناً، ومشتعلةً حينا آخر. ولذلك، على الرغم من وجاهة منطق “التحرير” الذي ينبغي أن تكون له الأولوية على كل ما عداه، فإن وراء معارك اليوم تختفي خيوط كثيرة قد لا يمكن فرزها بسهولة، يتداخل فيها الدافع الطائفي بالدافع الوطني، حتى ليصعب على المرء، في عديد حالات ومشاهد، التمييز بين النيات المضمرة، وما يجري على أرض الواقع.
تابع: “لا تنس أيضاً أن هناك ثمة صراعاً على أرض العراق بين قوى خارجية على أولوية النفوذ ومداه، وما قد تتمخض عنه “حرب الفلوجة” سوف يدخل عاملاً حاسماً في هذا الصراع. يريد الإيرانيون العراق قلعة متقدمة للمشروع العرقي- المذهبي الذي يروجونه، وبما يتيح لهم الامتداد والتوسع. ولذلك، فهم يسعون إلى أن تكون لهم حصة في النصر على “داعش”. ويريد الأميركيون إعادة إنتاج احتلالهم البلاد بصورةٍ أو بأخرى، وقد يكون ذلك بخلط أوراق المعركة، أو إعطاء دعمهم العسكري على جرعاتٍ تطيل من مدة تحرير المدينة، أو السعي إلى تسويق وجوه جديدة، تدعم مشروعهم في المنطقة، وعلى الخط قوى أخرى، إقليمية ودولية، تلعب على هذا الطرف المحلي أو ذاك لتجنيده في خدمة مصالحها وتوسيع نفوذها”.
سألته: وما هو دور اللاعبين المحليين في هذه اللعبة؟ أجاب: “أقول لك بمرارة، ليس في قدرة لاعبٍ محلي من هذا الطرف أو ذاك التأثير، ولو بقشّة، على ما يضعه اللاعبون الكبار من خرائط وإحداثيات وخطط، كل اللاعبين المحليين ارتضوا أن يكونوا تابعين مذعنين لما يخطط لهم، ولا يهمهم بعد أن ينقشع غبار المعارك سوى أن يحصلوا على بعض الفتات”. وقبل أن يغلق سماعة الهاتف سمعت محدّثي يقول وصوته يزداد تهدجاً: “مع كل ما حدث ويحدث، أنا متفائل بأن الفلوجة سوف تتحرّر في النهاية، وسوف يعود أبناؤها إليها، وسوف ينتصر العراق بكل أبنائه، وستفشل مخططات من أراد به السوء”.
لا أجد بأساً في أن يكون المرء متفائلاً لأن التفاؤل، كما يقول كونديرا، هو “أفيون الشعوب”.

عبداللطيف السعدون
صحيفة العربي الجديد