بعد أن أنتهت معركة الفلوجة بسيطرة القوات الحكومية العراقية مدعومة بالحشد (الشعبي) والـ (العشائري)، تتوجه الأنظار، في داخل العراق وخارجه، صوب محافظة نينوى (ثاني أكبر مدن العراق)، وهو ما بدا واضحاً من إعلان الحكومة العراقية إنطلاق عملية تحرير ناحية القيارة (60 كلم جنوب الموصل)، وتكثيف الجهد الأميركي والعراقي والكردي صوب هذا الهدف.
ولعل سكان مدن محافظة نينوى وقصباتها، بما فيها مركز هذه المحافظة (الموصل) باتوا قاب قوسين أو أدنى من ما عاناه أشقاؤهم في بقية المحافظات العراقية التي تعرّضت لحملاتٍ عسكريةٍ كبيرةٍ من الجيش العراقي ومليشيا الحشد الشعبي الطائفية، وإفرازات العمليات العسكرية التي سجلت خلالها دولياً ومحلياً أكبر سجلات التجاوز على حقوق الإنسان وأغربها.
واللافت في معارك (تحرير) تكريت وبيجي والرمادي وهيت والفلوجة أنها لم تبقِ شيئاً من هذه المدن سوى أطلالٍ مبعثرة ومئات الآلاف من المواطنين المهجرّين والآلاف من القتلى، إضافة إلى الآلاف من المغيبين قسرياً من دون أية معلومات رسمية حكومية عن مصيرهم، فيما تشير المصادر غير الرسمية إلى اعتقالهم، أو تصفيتهم من مليشيا الحشد.
أعدّ الأكراد خططهم في وقت مبكر لأدوارهم ومكاسبهم، في معارك محافظة نينوى، مستغلين قربهم الجغرافي المتاخم لهذه المحافظة، وكذلك العلاقة المميزة مع واشنطن، والمتوقع أن يكون جل اهتمام كردستان في سلسلة المعارك المقبلة هناك هو قضم ما تستطيع قضمه من الأراضي المحرّرة وضمها للإقليم، إضافة إلى هدفٍ استراتيجي مهم جداً، يتعلق بماهية الواقع السياسي المقبل لإدارة الموصل، بعد إزاحة تنظيم الدولة الإسلامية (داعش) عنها، وضرورة أن يكون للإقليم نفوذ إيجابي فيها، وأن لا يكون في مجلس إدارة المحافظة أطراف تتقاطع والمشروع الكردي.
الحشد (الشعبي) ووفق الجرائم التي ارتكبها في الفلوجة، أخيراً، والتي تؤكد منهجه الطائفي والإجرامي بحق (سنّة) العراق في مناطق ومعارك عديدة سابقة، يستبعد اشتراكه في معارك الموصل، وإن كانت إيران التي تدعم هذا الحشد وتموله ترغب في أن يكون له وجود هناك، وهو ما يمثل نقلة كبيرة وشبه نهائية في بسط نفوذها الإستراتيجي في العراق، لكن شروط الأكراد وحذر الإدارة ألأميركية وتركيا، إضافة إلى القوى السياسية والعشائر العربية في المحافظة، كلها تفضي إلى إستنتاجاتٍ شبه مؤكدة عن استحالة تكليف (الحشد) بأيِّ دورٍ قتالي أو خدمي هناك.
أما سكان محافظة نينوى، وخصوصاً مركزها (الموصل)، والذين يقدّر عددهم بمليوني نسمة، فهم في أوضاع نفسية ومعاشية صعبة جداً، خصوصاً بعد تكثيف التحالف الدولي غاراته على المدينة، والتي تسببت في تدمير معظم البنى التحتية للمدينة، حيث بات الناس هناك يفتقدون للخدمات الرئيسية بشكل منتظم، وأهمها الكهرباء والماء ومنظومة الاتصالات وخدمات البنوك، إضافة إلى النقص الواضح في الخدمات الطبية والأدوية، ناهيك عن الحالة المأساوية التي سبّبها قرار الحكومة المركزية في بغداد بقطع رواتب موظفي الموصل، منذ عام وأكثر.
كل هذه الأوضاع في كفة، وما ينتظر أهل الموصل من قصفٍ وتدمير، وربما (تنكيل)، بعد معركة تحريرها، في كفةٍ أخرى، فقد أثبت أسلوب إدارة المعارك السابقة لطرد تنظيم الدولة من المدن التي يحتلها اعتماد القيادات العسكرية، سواء العراقية أم الإيرانية، وحتى الأميركية، على أسلوب الأرض المحروقة، وهو ما يعني إنتظار الموت وفقدان المدنية في مدينة تمثّلّ رمزاً تاريخياً وحضارياً كبيراً.
ومما يزيد الموضوع خوفاً وقلقاً مساعي قادة الحشد (الشعبي) للاشتراك في بعض معارك نينوى أو كلها؛ حيث يراقب الموصليون تحركات بعض مليشيات هذا الحشد، صوب الشرقاط والقيارة، بدعمٍ من طهران، رغبة منها في إثبات الوجود وتحقيق التوازن الإستراتيجي بين نفوذ كل من إيران والولايات المتحدة وتركيا، في هذا الجزء المهم والحيوي في المتغيّرات الجيوسياسية المقبلة للعراق وللإقليم، وهو ما يفسر، في حقيقة الأمر، انحسار دور مليشيا الحشد في الفلوجة، وترك أمر تطهير مركزها للقوات العسكرية والأمنية الحكومية.
لن يكون مصدر معارك نينوى والموصل تحديداً، والتي ينتظرها الجميع، العمليات العسكرية فقط؛ بل ستكون المعارك السياسية بين أقطاب القوى السياسية العربية (السنيّة) على أشدّها بين تياراتٍ مختلفةٍ، بعضها قديم (قبل داعش)، والآخر أفرزه حراك القوى الأخرى التي تقرّبت أو تحالفت مع القوى المحلية أو الإقليمية والدولية، بانتظار منحها استحقاقات دعمها لها، وقد تكون إحدى هذه الاستحقاقات تكوين إقليمٍ جديد، رسمت تضاريسه ومكوناته بدقة.
نموذج عملية قصف جامعة الموصل، في نهاية مارس/ آذار الماضي، والذي تسبب في قتل 80 مدنياً، وإصابة 120 آخرين، أبلغ الموصليين رسالةً واضحةً، مفادها أن واشنطن لن تتورّع عن تدمير أية أهدافٍ مدنيةٍ، عامة أو خاصة، علميةٍ أو خدميةٍ أو أية بنى تحتية، في سبيل تحقيق أهدافها المرتبطة بطرد تنظيم الدولة الإسلامية منها، حتى بات عنوان (التحرير) يمثل بالنسبة للمدنيين سيناريو مرعباً للقتل والتدمير وإلغاء الهوية، وطريقا لمعسكرات اللجوء أو الهجرة.
ليس هناك من يقف مع أي تنظيم إرهابي، وربما لن تكون الصورة المرعبة التي وضع (داعش) العالم فيها، لن تكون الأخيرة في حال استمرار الظلم والتهميش والاحتلال، حيث سيكون هناك دائماً من يحاول تكريس هذه الممارسات لصالح تكوين تنظيمات إرهابية، تعتمد العنف سبيلاً للتعبير عن رفضها عمليات هدر كرامة الناس واستحقاقاتهم للعيش في أوطانهم، بأمان وعزة وسلام.
فارس الخطاب
صحيفة العربي الجديد