من بعيد، ينهض جبل سنجار صاعداً من أرض العراق الجافة المتشققة مثل مخروط عملاق مقلوب. وعن قرب، تعرض أثلامه إلماحات عن مزارع التبغ الخصبة، ومنازل الزيديين المختبئة بينها. ولطالما كانت دفاعات الجبل الوعرة هائلة حتى أنها هزمت العديد من الخصوم الذين سعوا على مدى قرون إلى القضاء على الطائفة القديمة التي تعبد الطاووس. وحتى “الدولة الإسلامية” الأكثر حداثة وقسوة، والتي ذبحت واستعبدت المجتمعات اليزيدية في السهول، سرعان ما تخلت عن هذا الجهد بمجرد أن وصلت سفوح الجبل.
الآن، أصبحت هضبة الجبل مغلفة بالخيام، وهي تؤوي آلاف المحظوظين الذين تمكنوا من الهرب إلى ممرات الجبل ومساربه قبل أي يجتاح الجهاديون مناطقهم خلال شهر آب (أغسطس) 2014، ويتمكنوا من اصطياد الآخرين. ومع ترددهم في أن يعهدوا بمصائرهم للغرباء، أقام اليزيديون هنا مجلسهم الإداري الخاص في عربة “كرفان”، بالإضافة إلى تأسيس قوة مسلحة، “وحدات مقاومة سنجار”. وتبدو المستوطنات متعددة الأديان من طراز تلك التي كان قد أنشأها صدام حسين في السهول في الأسفل في السبعينيات، مجرد آثار تاريخية فحسب. واليوم، كما يقول رئيس المجلس، خضر صالح، يحتاج نحو النصف مليون من اليزيديين في العراق إلى جيب خاص بهم في الوطن؛ وقد أصبحت منطقتهم الآن في قبضة الأكراد.
حسب ما يقول السيد صالح، فإن أسياد اليزيديين الأكراد الجدد هم أفضل قليلاً من السادة العرب. وإذا كان هؤلاء الأخيرون قد ارتكبوا جريمة الإبادة الجماعية في حق اليزيديين، فقد ساعد الأُوَل، كما يقول، على جعل تلك الإبادة تحدث عندما هربوا من دون قول كلمة واحدة في الليل عندما اقترب “داعش” من سنجار. وتقول كتابة غرافيتية على جانب الطريق: “نريد قوات دولية”، في إشارة إلى انعدام الثقة المحلية.
لكن من غير المرجح أن تأتي هذه القوات في أي وقت قريب. وتسيطر القوات الكردية على فيشخابور، البوابة الرئيسية لسنجار على ضفاف نهر دجلة على بعد 60 ميلاً (100 كيلومتر) إلى الشمال، ويتطلب دخول المنطقة الحصول على تصريخ. وقد استطاع كاتب هذا التقرير الحصول على تصريح، لكن عمال إغاثة وصحفيين آخرين يشتكون من أنهم رُدوا على الأعقاب.
لم تفعل أي من الطوائف المتحاربة في العراق أكثر مما فعله الأكراد لإنقاذ اليزيديين. وفي حين أن غيرهم من المسلمين نبذوا أبناء هذه الطائفة باعتبارهم “عبدة شيطان” (الطاووس اليزيدي المبجل، الملَك الطاووس، يمثل ملاكاً ساقطاً من السماء ومرتبطاً بإبليس)، قام المقاتلون الأكراد بفتح ممر إلى سنجار بعد أن سيطر “داعش” على السهول. كما قام القادة الأكراد، الذين يفخرون بتسامحهم الديني، باستيعاب جحافل من النازحين اليزيديين في مخيمات شاسعة. ومع أنهم مسلمون سنيون، فقد أنشأ الأكراد دائرة للشؤون اليزيدية في وزارة الشؤون الدينية التابعة لحكومة إقليم كردستان المتمتعة بالحكم الذاتي. وأمر رئيس الوزراء، نيجيرفان برزاني، بتجديد بناء ثاني أقدس ضريح لليزيديين. كما أسس الأكراد لجنة للتحقيق وتسليط الضوء على جرائم الإبادة الجماعية التي تعرض لها اليزيديون، وكشفوا النقاب عن المقابر الجماعية، والتي بلغ عددها 31 في آخر إحصاء.
ولكن، وكما هو الحال في كثير من الأحيان في الشرق الأوسط، فإن مطلبهم بحق التعبير عن هويتهم الخاصة، وحركات تحررهم، ما تزال عرضة للقمع الذي تواجهه الحركات المماثلة في مناطق أخرى. وقد غمر المسؤولون الأكراد اليزيديين الذين ينطق معظمهم بالكردية، في جسم الجمع الكردي الأوسع. ومع أن الأكراد تمكنوا، بمساعدة أميركية من الجو، من استعادة سنجار كلها من “داعش” في نهاية العام 2015، فإن حكومة البرزاني ما تزال تسعى إلى تأجيل عودة جماعية لليزيديين “إلى ما بعد سقوط الموصل”، كما يقول المتحدث باسمه. ويقول مسؤول في مخيم ماميليان، الذي يؤوي نحو 13.000 نازح ويقع عميقاً في تلال كردستان، على بعد 170 ميلاً (270 كيلومتراً) إلى الشرق من سنجار: “من الناحية الواقعية، لن يعود اليزيديون إلى الديار لفترة طويلة”.
مع خشيتهم من أن برنامج إعادة توطين آخر يلوح في الأفق، يشبِّه قادة يزيديي سنجار برنامج “التكريد” الجديد ببرنامج تعريب صدام حسين في السبعينيات. ويصر السيد صالح، رئيس مجلس سنجار الوليد على القول: “إننا لسنا أكراداً ولا عرباً”. وما تزال جهوده لتشجيع عودة جماعية لأبناء طائفته تواجه العقبات بسبب نقص في الخدمات. وما يزال على السيد البرزاني، حاكم كردستان العراقية، أن يعيد وصل سنجار والمستوطنة المحيطة به بشبكات الكهرباء والمياه الرئيسية، وقد ألقى بالمسؤولية عن تمويل التعليم وإعادة الإعمار على كاهل بغداد. وبعد أن فشل في حماية اليزيديين في العام 2014، يقول مسؤولوه إنهم لا يريدون ارتكاب الخطأ نفسه مرتين. ويشرح رئيس قواته الأمنية في سينوني، والذي كان يعمل في أوقات الهدوء طبيباً بيطرياً: “الوضع ليس آمناً بما فيه الكفاية بعد لعودة جماعية (لليزيديين)”.
كما يمكن أن يبدو الأمن مطلوباً أيضاً في مخيمات اليزيديين النازحين في كردستان. ففي ماميليان، يقدم مديرو المخيم دروساً مشتركة في الخبز في محاولة لكسر الحواجز بين اليزيديين والمسلمين السنة النازحين من الموصل، والذين يلقي الكثيرون من اليزيديين اللوم على قبائلهم في ارتكاب الإبادة الجماعية ضدهم. ويقول عامل إغاثة هناك: “إننا نتأكد من أن يغسل الجميع أيديهم في البداية”، ويعرب عن أمله في محاربة المحرمات الإسلامية المتعلقة بتناول الطعام مع “عبدة الشيطان”. لكنه يقال إن الخيام تخفي في طياتها أسلحة. وعندما أطلق إمام سني الدعوة التقليدية للصلاة واستعاذ من الشيطان، اعتبر اليزيديون ذلك مسيئاً، وسرعان ما جاء العنف على الأعقاب. وعند ذلك اندفع الأكراد المسلمون من خارج المخيم لمساعدة المسلمين في داخله. ويقول شاب يقيم في المخيم: إن (السنة) لا يدركون ما مررنا به. إنهم ما يزالون يعتقدون أننا كفار. نحن يائسون وفي حاجة ماسة للعودة إلى سنجار”.
ترجمة: علاء الدين أبو زينة
صحيفة الغد