المجتمع الدولي: استحضار المصطلح وغياب الوجود

المجتمع الدولي: استحضار المصطلح وغياب الوجود

_90304_64

المجتمع الدّولي المصطلح الذي يكثر استخدامه أثناء الأزمات المهددة للسّلم والأمن الدّوليين، حتى بات مألوفا للجميع ومرتبطا بالسّلبية وانعدام الفعل والفعالية، لكن غياب المعنى الدّقيق لمثل هذا المجتمع ولدوره والمسؤوليات الملقاة على عاتقه، جعل منه مساحة لإلقاء اللّائمة على سوء معالجة المشكلات المختلفة كتلك الأزمات المزمنة التي تعصف بالشّرق الأوسط أو غيره من المناطق.

المجتمع الدّولي الذي يقصد به باختصار، كافة الدّول والمنظمات الإقليمية والدّولية المتفاعلة مع بعضها في العالم، كهيئة الأمم المتحدة وغيرها من المنظمات التي نشأت بموجب اتفاقيات ومعاهدات دولية، وهذا يفترض وضع الجميع أمام تحديات العمل معا لإيجاد الحلول للأزمات المتعددة باسم المصلحة العامة وشمولية القواسم الإنسانية المشتركة، ويفترض أن دول العالم على اختلافها تقتسم نفس المصالح، وتمتلك نفس التصورات لحل المشكلات، وبالتالي يمكنها تشكيل أرضية صلبة لبناء مجتمع دولي يقوى على إدارة شؤون العالم، وبلورة آليات فعّالة لحل المشكلات ووضع قواعد السلم.

ما وصلت إليه البشرية من تطور للتكنولوجيا والاتصالات، إلى حركة العولمة وتسهيل التّبادل وانتقال الخدمات ورؤوس الأموال، إلى ازدياد الهجرات المختلفة لشعوب العالم وما قد ينتجه من تلاقح الثّقافات، بدل أن يبشر بميلاد حضارة عالميّة إنسانيّة واحدة، لم يستطع اختراق الحواجز الدّولية أو خصوصية الشعوب التي مازالت تجهل بعضها.

ثمار العولمة لم تجد نفعا إلا في تعميق الهوة بين الدّول نتيجة عوامل مختلفة منها، غياب لرؤية بعيدة المدى التي تسمح بالاتفاق على المصالح العالمية المشتركة بين مختلف دول العالم، ووجود أطراف قادرة على فرض تصوّراتها على الآخرين ممهّدة الطّريق لانتشار العنف وعدم الاستقرار، والدّرجة العالية من التّعقيد والتّشابك في العلاقات الإقليمية والدّولية التي بلغها المجتمع الدّولي والتي تقودها المصالح والنّفوذ، تضاف إليها كثرة الفاعلين الدّوليين على السّاحة العالمية كالشّركات متعددة الجنسيات والمنظمات غير الحكومية والحركات الإرهابية وغيرها من الأطراف التي تؤثر تحركاتها بشكل واضح على العلاقات الدّولية.

الفكرة المثالية لوجود ما يسمى المجتمع الدّولي لم تخرج من حيز الافتراض رغم الحاجة الملحّة إلى مثل هذا المجتمع الذي يضم كافّة المكونات الفاعلة والقادرة على ضبط ما وصل إليه النّظام الدّولي من حالة الانهيار لما تمّ تأسيسه منذ تشكل الدّول الحديثة وإبرام معاهدة وستفاليا سنة 1648 التي أنهت حرب الثّلاثين وساهمت في تنظيم العلاقات بين الدّول.

وذلك بالإضافة إلى رسم الحدود وإنشاء الامتيازات الدّبلوماسية وإدارة التّجارة، ونقلت الدول نحو وضع من الاستقرار إلى أن ظهرت مقولات تناقض سيادة هذه الدّول كالنّظام العالمي الذي تحكمه حكومة عالميّة ونظام موحد في السياسة والاقتصاد والثّقافة تمثلت في السّيطرة الأميركية على هذا النّظام العالمي، والذي أطلق عليه الرئيس جورج بوش بعد نهاية حرب تحرير الكويت في عام 1990 “النّظام العالمي الجديد” والذي افتتح عهد الحروب بالوكالة التي تحولت إلى طرق بديلة تقدم خيارات إعادة توزيع مناطق النّفوذ بالتّراضي.

تظهر ما راكمته الدّول الكبرى عبر تاريخها من التّجاوزات والانتهاكات للقيم المعلنة (كالديمقراطية، حقوق الإنسان، السيادة…) في القانون الدّولي الذي لم ينفصل عن وجوده كقانون الأقوياء، فالدّول المنتصرة في الحروب هي من صاغته، أما الدّول المهزومة فبقيت على الهامش، بحيث لا يمكن وصفه بقانون يستند إلى العدالة واحترام الدول والشعوب.

عالم اليوم الذي تآكلت فيه سيادة الدّول وازدادت مشكلاته مع ظهور العديد من المكونات العابرة أو الطارئة التي تقوض الاستقرار وتوجه الصّراعات لتضع العالم كله أمام خطر الانزلاق نحو الهاوية، تزايدت فيه حاجة الشّعوب والأمم إلى وجود مجتمع دولي يؤكد حضوره بشكل فاعل وحقيقي، ويسعى إلى ترسيخ مبدأ السّلام العام في العلاقات الدّولية، ويقوم على قيم عالمية أساسها احترام المبادئ الإنسانية، بدل استمرار المساكنة بالتراضي بين دول تدير الأزمات بالأزمات لخدمة مصالحها، وتبشّر أن عالما من اللا استقرار قد يستمر لسنوات طويلة قادمة وأن مناطق ودول مختلفة ستكون ساحة اختبارات لتداول النّفوذ بدل أن تمتلك خياراتها ويكون لشعوبها حق تقرير المصير.

هوازن خداج

صحيفة العرب اللندنية