كشفت التحولات التي شهدتها منطقة الشرق الأوسط في السنوات الأربع الماضية عن حدوث تغيراتٍ في عددٍ من ظواهر التحولات السياسية الداخلية التقليدية، ويأتي في مقدمتها حركةُ اللجوء التي اتخذ قسم منها طابعًا سياسيًا بشكل يجعله مختلفًا عن الظواهر الأخرى مثل الهجرة أو النزوح أو الإقامة الدائمة بغرض العمل أو لأغراض أخرى. فقد تمثلت أبرز الأنماط التقليدية للجوء بعض كوادر وعناصر المعارضة السياسية، خلال فترات تاريخية سابقة، في استضافتها مؤقتًا أو بشكل دائم في العديد من الدول الغربية. كما استقبلت عواصم عربية أيضًا معارضين سياسيين لبعض الدول. غير أنه في مرحلة ما بعد اندلاع الثورات والاحتجاجات في العديد من الدول العربية منذ نهاية عام 2010 ظهرت أنماط جديدة لظاهرة اللجوء داخل الإقليم، بحيث شملت التغير في وجهة دول اللجوء، والتبدل في مواقع ما يسمى بـ”اللجوء المتنقل”.
أنماط جديدة:
تتعدد الأنماط الجديدة من اللجوء الذي يتسم بطابع سياسي، والتي فرضتها التحولات السياسية في دول الإقليم، ويتمثل أبرزها فيما يلي:
1- التغير في وجهة دول اللجوء: لم تعد الدول الأوروبية هى الوجهة الرئيسية للاجئين السياسيين، خاصةً من أنصار التيارات الإسلامية كما كان في السابق، بل اكتسبت عمليات اللجوء بُعدًا إقليميًا، وهو ما تجلى بعد اندلاع الثورة الليبية؛ إذ هرب العديد من قيادات نظام الرئيس السابق معمر القذافي، مثل رئيس الوزراء الأسبق البغدادي المحمودي والساعدي القذافي إلى كل من تونس والنيجر. وفي الإطار ذاته، استقبلت تركيا، في أواخر سبتمبر 2013، عدي أبو عيسى، الناشط السياسي الأردني، الذي كان قد تقدم بطلب للمفوضية العليا لشئون اللاجئين في تركيا. ومنحت أنقرة أيضًا، في ديسمبر 2011، الإقامة الدائمة لنائب الرئيس العراقي طارق الهاشمي، بعد صدور مذكرة بحقه بتهمة الإرهاب.
2- التبدل في مواقع “اللجوء المتنقل”: يبدو أن تصاعد حدة الضغوط السياسية التي تواجهها الدول المُستقبِلة للاجئين السياسيين على غرار قطر؛ قد ساهمت بشكل كبير في انتشار ظاهرة “اللاجئ المتنقل”، وهو اللاجئ الذي يتنقل من دولة إلى أخرى، وقد انعكس ذلك في مطالبة السلطات القطرية لبعض قيادات جماعة الإخوان المسلمين (من الصفين الأول والثاني) الموجودين على أراضيها بمغادرة البلاد، مما دفع البعض للانتقال إلى دول أخرى خاصة تركيا، لا سيما في ظل وجود تقارب بين تركيا وجماعة الإخوان المسلمين، في الوقت الذي ظهرت فيه تقارير غير رسمية أشارت إلى إمكانية استقبال تونس لبعض كوادر الجماعة إبان فترة وجود حزب النهضة في الحكم، وهو ما لم يحدث بعد وصول حزب “نداء تونس” بقيادة الرئيس الباجي قائد السبسي إلى السلطة عقب الانتخابات التشريعية والرئاسية الأخيرة.
إشكاليات الترحيل:
مع تصاعد ظاهرة اللجوء الذي يتسم بطابع سياسي في المنطقة، سواء بشكله التقليدي أو غير التقليدي؛ أُثيرت قضية تسليم وترحيل اللاجئين بشكل واسع خلال الفترة الماضية. وفي هذا السياق، تجدر الإشارة إلى وجود إشكاليتين رئيسيتين في هذا الشأن: الإشكالية الأولى تتمثل في البعد القانوني، إذ أن غالبية الدساتير في دول المنطقة، حظرت بشكل تام إمكانية تسليم اللاجئين السياسيين، ليس هذا فحسب، بل إن المواثيق الدولية والإقليمية أكدت على الأمر ذاته، فعلى سبيل المثال، نص الميثاق العربي لحقوق الإنسان في مادته رقم “28” على أنه “لكل شخص الحق في طلب اللجوء السياسي إلى بلد آخر هربًا من الاضطهاد، ولا ينتفع بهذا الحق من يَجري تتبعه من أجل جريمة تهم الحق العام، ولا يجوز تسليم اللاجئين السياسيين”.
ومن هنا، فإن فتح ملف تسليم اللاجئين السياسيين يواجه حزمةً من المحاذير والإشكاليات القانونية المعقدة، لكونها قضية قد حسمتها الدساتير الوطنية والمواثيق الدولية. وبالطبع، يستثنى من ذلك، كما جاء في المواثيق القانونية، من يجري تتبعه من أجل جريمة تهم الحق العام، وهو ما استندت إليه بعض الدول لتسليم بعض الأشخاص الذين هربوا إليها. فعلى سبيل المثال، أعلنت حكومة حمادي الجبالي، الذي كان يشغل منصب أمين عام حركة النهضة في تونس، في 24 يونيو 2012، تسليم رئيس الوزراء الليبي الأسبق البغدادي المحمودي إلى ليبيا، رغم معارضة الرئيس التونسي منصف المرزوقي، وذلك بعد أن قدمت ليبيا طلبين لتسليمه لمحاكمته في قضايا فساد وإصدار أوامر بارتكاب عمليات اغتصاب جماعي خلال فترة الثورة، وقالت الحكومة أنها “اتخذت قرارها بعد أن اطلعت على تقرير اللجنة التونسية الموفدة إلى طرابلس لمعاينة توفر شروط المحاكمة العادلة للمواطن البغدادي المحمودي، وبناء على تعهدات الحكومة الليبية بضمان حماية المحمودي من كل تعدٍ مادي أو معنوي وتجاوز مخالف لحقوق الإنسان”.
فيما تنصرف الإشكالية الثانية إلى البعد السياسي والمصلحي، فقد لعبت الحسابات السياسية دورًا في قضية ترحيل وتسليم اللاجئين، وهو ما تجلى في حالة الكوادر الليبية التابعة لنظام القذافي التي انتقلت إلى تونس. ففي إطار فتح معبر رأس جدير بشكل دائم بين البلدين؛ أعلنت السلطات التونسية، في أبريل 2014، عزمها تسليم 10 شخصيات من أنصار نظام القذافي في إطار اتفاقٍ أمني تم إبرامه بين سلطات البلدين.
خلاصة القول، إنه على الرغم من وجود أُطُر قانونية تتسم بقدرٍ كبيرٍ من الصرامة في التعامل مع قضية اللاجئين السياسيين في دول الإقليم، فإن العامل الحاسم فيها يتعلق بطبيعة العلاقات بين الدولتين المُرسِلة والمُستقبِلة، لكن يبدو أن الاتجاه العام، في الوقت الحالي، يركز على عدم تسليم اللاجئين باستثناء حالات قليلة للغاية، تتعلق بوجود اتهامات تتعلق بالشأن العام.
المركز الاقليمي للدراسات الاستراتيجية