الشيء الوحيد الذي يجعل الكوابيس محتملة، هو أنك لا تختبر التداعيات في الواقع أبداً. قد تحلم بأنك تهوي من مكان عالٍ، لكنك تستيقظ -أو أنك تغير المشهد بأعجوبة ما- قبل أن تضرب الأرض، أو حتى تتساءل عن بقائك.
بالنسبة لمعظم العالم، يبدو انتخاب دونالد مثل الكابوس الذي يفتقر إلى تلك الرحمة المنقذة. وخلال الأيام القليلة الماضية، كنا جميعاً نعيش في سقوط حر، وحيث الأرض تقترب بسرعة منا، باستثناء أننا نعرف أيضاً أننا مستيقظون تماماً.
مع ذلك، ومع الصعوبة التي تتصف بها الأمور، حان الوقت للشروع في التفكير في ما ينتظر العالم بالضبط بعد اصصدامه بقوة بحقيقته السياسية الجديدة. وليست هذه مهمة سهلة. فترامب رجلٌ صاحب كلمات قوية، وهو ليس رجل وجهات نظر ثابتة. وعلى مدار الأشهر الاثني عشر الماضية، كان متقلباً في كل موضوع، من دولة الرفاه إلى الحقوق المدنية إلى الانتشار النووي، وإلى استخدام القوة العسكرية الأميركية.
ونتيجة لذلك، فإن من الصعب بطريقة مضاعفة فهم التهديد الذي يمثله دونالد ترامب: من الصعوبة بمكان معرفة ما إذا كان خطابه المتطرف سيترجم إلى أعظم اهتزاز أساسي للسياسة الأميركية المحلية والخارجية على حد سواء للجزء الأكبر من قرن، أو ما إذا كان صخب حملته القبيحة سيفتح المجال أمام شخصية أكثر اعتدالاً متى ما ارتقى إلى سدة الرئاسة. وحتى لو أثبتت شخصيته المتطرفة أنها موثوقة، كما يحتمل كثيراً أن تفعل، فإن البعيد كل البعد عن اليقين هو أي نسخة من التطرف سوف تطبعها.
لذلك، قد لا نكون قادرين على الخروج بنبوءة حازمة عن الاستيقاظ الصعب الذي ينتظرنا -لكننا نحتاج إلى البدء في تقدير الاحتمالات.
ترامب قد يقوض الديمقراطية الليبرالية الأميركية
أولاً وفي المقام الأول، لا يجب علينا التقليل من قدر احتمال أن دونالد ترامب قد يثبت أنه تهديد خطير للديمقراطية الليبرالية في الولايات المتحدة.
خلال الحملة، كان قد هاجم كل عرف من أعراف السياسة الديمقراطية: فقد هدد بسجن منافسته، وبرفض نتيجة الانتخابات إذا خسر. كما هاجم استقلال القضاء ووعد بقمع الصحافة الحرة. وقد يكون هذا تمثيلاً للترحيل اللفظي لرجل يطوع بسهولة فن قول الأشياء المتطرفة من دون التفكير فيها، لكنها من المرجح أن تكون انعكاساً لعمق محفزاته الاستبدادية بالمقدار نفسه. وحتى لو لم يكن انتصاره في صناديق الاقتراع كبيراً مثلما توحي القوة الهائلة التي منحه إياها، فإنه صنع شيئا واحداً واضحاً: ثمة عدد ضخم من الأميركيين إلى حد الصدمة، والذين لم ينفروا بسبب بخطابه الاستبدادي. وقد يكونون راغبين في المضي معه إذا ما قرر السير في نفس الطريق أيضاً.
لم يتغلب مئات العلماء السياسيين (بمن فيهم أنا) والذين وقعوا على رسالة تحذر من الخطر الذي قد يشكله ترامب على الديمقراطية الليبرالية، لم تتغلب هؤلاء على ترددهم المهني للانخراط في السياسة الحزبية بناء على نزوة: فقد كانوا مدفوعين بالتشابهات التي شاهدوها بين ترامب وبين العديدين من متعهدي الديمقراطية في فترات تاريخية ومناطق جغرافية أخرى. وقد طرح جيمس لوكستون من جامعة سيدني السؤال الذي نحتاج الآن لإثارته: “هل ترامب هو برلسكوني الأميركي أم موسوليني الأميركي؟”، يجب علينا أن نأمل بأن يتبين أنه الأول بينما نتأهب لاحتمال أن يتبين أنه الثاني.
قد يقتل ترامب حلم إقامة ديمقراطية متعددة الأعراق
نادراً ما يشار إلى أن الديمقراطية التي ترسخت في البلدان الأوروبية في اللحظة الدقيقة عندما أحالتها عقود من الحرب والتطهير العرقي إلى بلدان متجانسة بشكل متطرف. وربما لا يكون هذا ضرباً من الصدفة. ففي الحقبة الحديثة، سارت الديمقراطية يداً بيد مع القومية دائماً. وكان الشعور الشعبي حول من ينتمي إلى هذه الأمم بحق مقيداً بشكل عميق. وفي معظم الأزمنة والأماكن، فإنك لا تكون منتمياً إلى مواطنيك بحق ما لم تكن منحدراً من المخزون العرقي نفسه مثل معظم بني جلدتك.
هذه طريقة كانت عليها الولايات المتحدة فعلاً عند إحدى النقاط، إن لم يكن بشكل فريد تماماً، فبشكل يتسم بالخصوصية بالتأكيد. فعلى الرغم من تاريخها الطويل والعميق من الظلم العنصري المتطرف، كانت أميركا تحاول الاعتقاد، ببعض الطرق، بأنها أصبحت ديمقراطية متعددة الأعراق على نحو أصيل. وحتى بينما عمد العديد من البيض إلى حماية مزاياهم بقوة، على سبيل المثال، فقد قبل معظمهم بفكرة أن السود واللاتينيين هم أميركيون من مواطنيهم.
يضع انتخاب ترامب ذلك التفاؤل موضع الشك. فلم يقتصر الأمر على أن رغبة ترامب في الاستئساد على أعضاء كل مجموعة أقلية وذمها شكلت جزءاً محورياً من قبوله الانتخابي، وإنما منح خطابه المتطرف ضد الأقليات للانقسام العنصري طويل الأمد في القاعدة الانتخابية الأميركية ملمحاً أكثر مرارة: بينما أعطت غالبية واضحة من الرجال والنساء البيض دعمها لمرشح صادقت عليه جماعة كو كلكس كلان، سعت غالبية ضخمة من المسلمين واللاتينيين والأفارقة الأميركيين إلى الخلاص عبر دعم منافِسته.
تستمر السياسة الأميركية في أن تصبح أكثر قبَلية. وكما قال لي دروتمان، زميلي في مؤسسة “نيو أميركا”، فإن الانقسام السياسي الرئيسي الذي يقسم الديمقراطيين عن الجمهوريين كان ذات مرة اقتصادياً، وهو الآن عرقي عنصري. وستكون تبعات هذا التحول راديكالية. يمكن أن تكون لديكم خلافات اقتصادية عميقة، بينما تعترفون ببعضكم بعضا كمواطنين. ولكن، عندما تتحول السياسة إلى هذه القبلية، فإن داعمي الأحزاب المتنافسة قد يرفصون بشكل متزايد التفكير في بعضهم بعضا كمواطنين أصيلين.
بعد هذه الانتخابات، أصبحت الديمقراطية متعددة الأعراق تبدو أقل استقراراً بكثير في الولايات المتحدة مقارنة بما كانت عليه ذات مرة. وهذه صفعة موجهة إلى فرص هذه الديمقراطية في العديد من الأجزاء الأخرى من العالم أيضاً.
تراجع الليبرالية العالمي سيتفاقم
خلال حملة الانتخابات، أظهرت استطلاعات الرأي العالمية تفضيلاً جامحاً لهيلاري كلينتون في معظم أنحاء العالم. لكن هذه الاستطلاعات فوتت تفصيلاً حاسماً: من بين الشعبويين الليبراليين الذين يرتقون راهناً في بلدان متنوعة، مثل فرنسا والسويد وهنغاريا وروسيا، تمتع ترامب دائماً بدعم قوي.
نايجل فاراج، الذي ساعد على إنجاح الخروج البريطاني كزعيم لحزب الاستقلال في المملكة المتحدة، شارك في حملة ترامب. وكان شعبويون غير ليبراليين آخرون من بين الأوائل -وأكثر المتحمسين- للاحتفال بانتصاره. وقد هنأت مارين لوبان، من حزب الجبهة الوطنية اليميني في فرنسا، الأميركيين على “اختيار رئيسهم وفق رأيهم الخاص بدلاً من الموافقة على الشخصية التي فرضتها عليهم المؤسسة”. وهناك خيرت فيلدرز، زعيم أقصى اليمين الهولندي الذي بز ترامب عبر الدعوة إلى حظر تام للقرآن، الذي أعرب عن سروره من حقيقة أن “السياسة لن تكون نفسها أبداً… ما يستطيع الأميركيون فعله نستطيع نحن فعله أيضاً”.
وهناك سبب لابتهاجهم. فبينما يتكون قادة اليمين المتطرف الذين تمتعوا بصعود صاروخي في الأعوام الأخيرة من الناحية الفعلية من القوميين المتعصبين دائماً، فإنهم يرون أنفسهم حالياً كجزء من مؤسسة مشتركة تسعى إلى فصل الليبرالية عن الديمقراطية. وفي الديمقراطية الليبرالية، تكون حقوق الأقليات مؤسسات محمية ومستقلة، مثل حكم القضاء، في سلطة الحكومة. وفي الديمقراطيات غير الليبرالية التي أسستها طلائع النزعة العالمية غير الليبرالية في بلدان مثل تركيا أو بولندا، تتم التضحية بالأقليات من أجل الكسب السياسي، بينما يتم تقويض مراكز السلطة المستقلة بطريقة منهجية.
عبر فكتور أوربان، رئيس وزراء هنغاريا -وربما الشعبوي غير الليبرالي الأكثر تطوراً من الناحية الأيديولوجية، عن تطلعات رفاقه أوضح ما يكون: “نحن نعيش في الأيام حيث تنتهي ما نصفها بأنها اللاديمقراطية الليبرالية -التي عشنا فيها الأعوام العشرين الماضية- وحيث نستطيع العودة إلى الديمقراطية الحقيقية”. وأوربان محق: فالحقبة التي كان يمكن أخذ الديمقراطية الليبرالية فيها كشيء مسلم به قد انتهت بالتأكيد ليلة انتخاب ترامب.
ترامب قد يشجع الحكام المستبدين حول العالم
خلال حملة الانتخابات، استنتج المراقبون الكثير من إطراء دونالد ترمب على فلاديمير بوتين. بل إن بعض الصحفيين تكهنوا بأن ترامب أو بعض مستشاريه المقربين ربما كانت لهم مصلحة مالية شخصية في إقامة تحالف مع بوتين. لكن ذلك يفوت نقطة أكثر رعباً بكثير: إن ترامب يمتدح بوتين لأنه يحب الرجل في الحقيقة -ويحب الكثير مما يمثله.
مثل ترامب، يعتقد بوتين بأن الدول يجب أن تلاحق مصالحها الذاتية بلا رحمة. ومثل ترامب، يؤمن بوتين بعالم تتمتع فيه القوى الكبرى بفضاءات نفوذ تستطيع الهيمنة عليها كما تريد. ومثل ترامب، لا يعتقد بوتين بأنه ليس هناك شيء اسمه المعارضة الموالية.
كانت أميركا دائماً راغبة في تشكيل تحالفات مصلحة مع أنظمة مكروهة لديها من الناحية الأيديولوجية كلما بدا ذلك ضرورياً من الناحية الجيوسياسية. لكنها فضلت دائماً تشكيل أكثر التحالفات قوة مع الديمقراطيات الليبرالية. ولا يستطيع المرء ببساطة أن يتأكد مما إذا كان ترامب سيتبع ذلك التقليد.
من المرجح أن يشجع ذلك الحكام المستبدين في العالم -وليس في روسيا فقط وإنما فيما وراءها أيضاً. وقد أصبح هؤلاء المستبدون يعرفون الآن أنهم لن يتعرضوا للانتقاد إذا انتهكوا حقوق الإنسان بشكل أوضح أو سحقوا المعارضة في الوطن. ولديهم أيضاً سبب وجيه للاعتقاد بأن أميركا ستغض النظر إذا ابتزوا جيرانهم أو غزوهم طالما ظلوا راغبين في رد الجميل لأميركا في جوارها الجيوسياسي الخاص.
إذا تمخض انتخاب ترامب عن إعادة توجيه راديكالية للسياسة الأميركية الخارجية، فمن المرجح أن يتبع ذلك تداعيان: الأول، قيام القوى السلطوية مثل روسيا بتوسيع نفوذها الذي تمارسه في العالم بطريقة درامية على الأرجح. وثانياً، سيتسبب توسع هذه القوى في عدم استقرار كبير، حتى في مناطق مثل أوروبا الوسطى التي كانت قد بدأت مؤخراً دخول حقبة جديدة من الاستقرار.
حلفاء أميركا قد يشرعون في التطلع إلى مكان آخر
حتى في أفضل الحالات، ستظل السياسة الخارجية الأميركية غير قابلة للتنبؤ بها في الأعوام المقبلة. وبالنسبة للبلدان التي اعتمدت دائماً على موثوقية حلفائها الأميركيين، فإن هذا مرعب إلى حد كبير. وسوف تكون الآن عرضة لتقلبات الرئيس ترامب. ولا يمكن أن يكون هذا الشعور بعدم الأمان جيداً. ولذلك، إذا كان لدى صناع القرار في العواصم، من برلين إلى طوكيو، أقل قدر من الرؤية الاستراتيجية، فيجب أن يكونوا الآن جادين في العمل على تشخيص الكيفية التي يمكن من خلالها أن يصبحوا أقل اعتماداً على الولايات المتحدة.
لكن خياراتهم شحيحة. إنهم يستطيعون الاستثمار بشكل أكبر في مجال دفاعهم الخاص، ومما لا شك فيه أن العديد منهم سيفعل ذلك. ولكن، بالنسبة لبلدان مثل ألمانيا أو اليابان، سيكون المكلف كثيراً بلا شك تحديث قواتها المسلحة بشكل كاف بحيث تستطيع أن تتدبر أمورها من دون اليد الحامية لصديق قوي. ويمكن لهذه الدول أن تقوي تحالفاتها مع دول ما تزال تقاسمها قيمها. لكن تلك الدول أصبحت قليلة ومتباعدة، ومن غير المرجح أن تكون أقوى منها نفسها عسكرياً. وأخيراً، يمكن أن تسعى هذه الدول إلى طمأنة نفسها عن طريق امتلاك الأسلحة النووية. لكن من المرجح أن يثير ذلك معارضة محلية كبيرة، وربما يأتي بنتائج عكسية إذا أدى إلى تخويف الجيران والتسبب بسباق تسلح.
وهكذا، يكون أكثر الخيارات عقلانية بين كل الاحتمالات المتاحة أمام حلفاء أميركا منذ وقت طويل هو الابتعاد عن النظام القائم على القيم بين الحلفاء الدوليين. وفي عالم لا تتبقى فيه قوة مهيمنة ديمقراطية موثوقة، فإن الدول الأصغر ستكون تحت إغراء البحث عن الحماية في أي مكان يعرضها. وإذا حدث ذلك، فإن النظام الغربي الليبرالي ربما يتحلل في أزمن أسرع كثيراً مما كنا نتخيل قبل بضع سنين.
ياشا مونك
صحيفة الغد