كانت هناك قراءات صعود مبررة لتجربة حزب العدالة التركي بعد انتصاره القوي المسنود شعبيا على انقلاب 15 من يوليو/تموز الماضي، مدار هذه القراءة يقوم على أن الانقلاب رغم أنه أحدث صدمة في حجم المتعاطفين معه في المؤسسة العسكرية، فإن مثل فرصة تحييد الجيش عن الحياة السياسية الداخلية والعملية الديمقراطية، وهي فرصة تحققت عبر فشل هذا الانقلاب.
وتحول الجيش بالفعل إلى عهدة الرئيس المنتخب القوي رجب طيب أردوغان، كتنظيم دستوري حقيقي يلتزم بالدولة الدستورية، وكحام للأمن القومي لا متدخلا في حريات الشعب ومراقبا لمصالحه الخاصة وأيديولوجيته العلمانية المتطرفة المصادمة للحقوق الشخصية والسياسية وأصول العمل الديمقراطي، فيقوم بهدمها عند كل دورة تنشط فيها الروح الشعبية السياسية والكفاح الديمقراطي منذ تأسيس الجمهورية.
وبالتالي يصب هذا التغيير التاريخي في صالح الدولة المدنية التي يعلن عن تأسيسها الجديد، في عهدة حزب العدالة، ويضمن بقاء قوته الشعبية عبر ذات المسار الذي أعلن فيه هزيمة العسكرية المناهضة للدولة الديمقراطية، وسيخوض حزب العدالة بعدها غمار هذه التجربة الصعبة، بقاعدة مرتاحة ومنفتحة لمستقبله السياسي لو تحقق ذلك المسار بالفعل.
“ليس المطلوب من تركيا التورط بحرب في العراق وسوريا، ولكن المطلوب هو رسم سياسات توازن لا تندفع مع الروس ولا تستفزهم، وتعمل على الأرض فعليا لدعم السوريين وصناعة قيادة مقاومة مختلفة مع تشكيلات الجيش السوري الحر، ومشروع مع العشائر العراقية بانضباط إستراتيجي أكثر فائدة “
وكان خيار تصويت الشعب قائما في دورات جديدة، لكن وجود رئيس منتخب حاليا ولدورة قادمة، يكفي لتحقيق هذا الاستقرار لو انطلقت مسارات الإصلاح السياسي والاقتصادي، مستثمرة هذه القوة الجديدة في الانسجام الدستوري، وتم تعقب ما يعتبر معارضة غير مشروعة سواء فيما يُطلق عليه الكيان الموازي، أو المعارضة الكردية المسلحة التي تضرب في الشارع المدني بقوانين الردع الطبيعية.
في حين يَقوى تداول البرلمان وحراك الأحزاب السياسية، وفقا لهذه المنظومة لتتكون سلطة مستقرة للدولة، لا تمنعها من تعميق علاقاتها مع الجسر الإسلامي الممتد، وقوى الشرق الثقافية، فتسعى الجمهورية الثالثة إلى صياغة علاقات مصالح إقليمية وتحييد دولي، يؤثر إيجابيا على أمنها القومي وقوة أنقرة الإستراتيجية.
ومجمل هذا التصور لم يكن بعيدا عن تداول الفكر الإستراتيجي لحزب العدالة، غير أن الحزب وعلى الأقل قوته السياسية المعلنة، اتخذ مسارا آخر حين رأى أن التحدي الداخلي لا بد له من مواجهة فيه، لتصفية حصيلة نتائج انقلاب 15 يوليو/تموز، ولا يختلف الكثير مع سياسة الحزب بإخضاع الجيش للقرار الدستوري الجمهوري، وسلطته المدنية، بل هناك توافق وطني عام.
لكن حجم المواجهة المستمرة بين حزب العدالة، وأجهزة الدولة التابعة له مع المعارضين، تحول إلى معركة سياسية وأمنية كبيرة، شملت علنا كل حركة الخدمة والديمغرافية السنية التابعة لها، ثم تمددت لصحافة المعارضة التي كان لها إرث قديم في مساندة الانقلابات، لكن تجدد وضعها مؤخرا، وأصبح الجزء الأكبر من اهتمامها مندرجا ضمن مسار التطور الديمقراطي.
وفرز ما هو ديمقراطي مع ما هو أيديولوجي يستتر بالديمقراطية صعب للغاية، لكن قواعد اللعبة في تطور العملية الديمقراطية يسمح بمساحة واسعة لهذا الحراك إعلاميا، ويفتح الطريق لتقويمه بالصوت الشعبي والإعلام الأكثر مصداقية، في حين يُفهم من موقف الرئيس، ومركزية حزب العدالة أن التحديات الكبرى للجمهورية الثالثة لا يكفي فيها ما أطلقنا عليه سابقا الديمقراطية الخشنة، ولا الصوت الشعبي، ولا بد من إجراءات أمنية وأجواء طوارئ تُنفذ على الداخل.
ومن 20 يوليو/تموز حتى نهاية نوفمبر/تشرين الثاني المنصرم، بدا أن هناك إشكاليات حقيقية تواجه هذه السياسة، وأن هذه السياسة لا يُمكن الجزم بتحويلها إلى قوة استقرار سياسي، بشرعية ديمقراطية لمستقبل حزب العدالة، وإن بقيت شعبيته تتصدر مقابل الأحزاب الأخرى، لكن الحزب بحاجة ماسة إلى مراجعات صريحة، لتقويم نتائج الواقع السياسي والأمني، في مضمار العلاقة مع المعارضة، ومع الحالة الكردية المدنية.
وتبرز أهمية هذه المراجعات، من خلال التداخل الدولي والإقليمي الصعب والشرس مع الشارع الداخلي، وتوسع إمكانية استثماره، لصالح توافقات إقليمية ودولية خطيرة لا تستطيع أنقرة مواجهتها.
ورغم أن تقدير هذا الاستثمار الإقليمي الدولي ضد تركيا لم يغب عن عقل حزب العدالة السياسي، فإن الإشكال كان في توجهات هذه المعالجة، وخاصة الاندفاع مع الموقف الروسي، الذي تثبت قراءات الميدان في سوريا والعراق، وتقديرات مصالحه مع الرئيس الأميركي الجديد دونالد ترمب، ومع طهران، بأنها لن تخضع بالضرورة لحسابات أنقرة.
كما توحي المؤشرات إلى أن الخلاص من الثورة السورية الذي يعتبر اليوم عقيدة إستراتيجية روسية مشتركة مع طهران سيتحول إلى حصار لأنقرة، مالم تضبِط حساباتها الدقيقة مع موسكو، وخاصة حين تفقد حكومة العدالة كامل خياراتها مع المجتمع السوري والعراقي المناهض للاحتلال، والذي يُحبط اليوم كليا من خلاصات سقوط الموصل وحلب، والصورة التي تنعكس عن الموقف التركي الإستراتيجي.
وليس المقصود تورط تركيا المجمل بحرب في العراق وسوريا، ولكن المطلوب هو رسم سياسات توازن لا تندفع مع الروس ولا تستفزهم، وتعمل على الأرض فعليا لدعم السوريين أمام المستقبل الجديد، وصناعة قيادة مقاومة مختلفة مع تشكيلات الجيش السوري الحر، ومشروع مع العشائر العراقية بانضباط إستراتيجي أكثر فائدة ويُخفف كثيرا من الأثر السلبي للتصريحات الإعلامية المكثفة التي تُسقط هيبة السياسة الخارجية التركية.
“إن القوى المناهضة لتركيا، لن تعجز عن استمرار إشعال وتطوير الحرب بين القوميتين الأناضولية والكردية لسنوات طويلة تعبر من خلالها مشاريع تدمير كبرى، في حين أن ضبط هذه العلاقة واستقرارها النسبي ولو مع وقوع خسائر، سيكون مدخلا كبيرا لتطويق المشروع الدولي الإقليمي”
إن إدراك صعوبة موقف تركيا في المحيط العربي، أمرٌ مفهوم، فالرابطة الإسلامية لا تستطيع اليوم أن تتجاوز أو تتورط في قضايا الداخل العربي المعقدة، وسيبقى للعرب رابطتهم، وعلاقتهم الحيوية بالشرق الإسلامي، لكن المطلوب تحويل هذه الجسور إلى مشاريع واقعية لمصلحة الشعوب العربية المنكوبة، تجنبهم مدارات المصالح والصراع الشرس مع الإقليم وأوروبا، وتستفيد أنقرة من هذه الجسور إحياء لعلاقات تاريخية ودعما لأمنها القومي.
وهذا ما يعيد الموقف من جديد إلى قوة الداخل التركي، وهل هناك إمكانية لصناعة تصورات جديدة لصالحه، أفضل من المعالجة الأمنية في المشهد السياسي، كإمكانيات احتواء الجسم الديمغرافي الأكبر من حركة الخدمة، ومعالجة ملفاتها حقوقيا، وفرز المجموعة المتهمة بدعم حقيقي للانقلاب، والتغول غير المشروع عبر القضاء العادل، وبالتالي تتحول تلك التجربة المؤسسة في مسارها الاجتماعي الخيري لصالح الجمهورية الجديدة، وتنشغل بأطر التربية لصالح تركيا الجديدة لا التنظيم الخاص.
في حين تبدو قضية الاشتباك مع أكراد الداخل صعبة جدا، ولكن تفكيكيها يبدأ بتخفيف الأزمة مع حزب الشعوب الديمقراطي، وفتح الباب أمام تمثيل كردي مدني، يوازن العمل السياسي مع القوة الماركسية المسلحة، وتورطها الإقليمي الواسع.
وقد بدأت الاتصالات السرية من جديد عبر الرئيس مسعود برزاني وأوجلان وغيرهما، لإعلان وقف لإطلاق النار، وهو أمرٌ ممكن الحدوث، ولا يمنع القوات المسلحة والشرطة التركية من الرد على أي عملية اعتداء، لكنه يحقق مستقبلا مرحلة استقرار نسبي مهمة جدا، ويسحب من الغرب ذرائع الضغط، ويحد من احتمالية عقد اتفاق وارد حدوثه بين موسكو وطهران، يقلب الطاولة كليا على حزب العدالة.
فالمشكلة الكبرى هي أن القوى المناهضة لتركيا، لن تعجز عن استمرار إشعال وتطوير الحرب بين القوميتين الأناضولية والكردية لسنوات طويلة تعبر من خلالها مشاريع تدمير كبرى، في حين أن ضبط هذه العلاقة واستقرارها النسبي ولو مع وقوع خسائر، سيكون مدخلا كبيرا لتطويق المشروع الدولي الإقليمي، وأخطر صفحاته أن يعتقد حزب العدالة أنه طرف لاعب فيه، ثم يصبح كضحية كبرى من ضحاياه.
المصدر : الجزيرة