سؤال التغير لدى عبد الرحمن الكواكبي

سؤال التغير لدى عبد الرحمن الكواكبي

يعتبر عبد الرحمن الكواكبي (1271هـ – 1855 م/ 1320 هـ – 1902 م) من رجالات الإصلاح ورواد النهضة العربية في القرن التاسع عشر الذين رغم قلة كتاباتهم ساهموا بعمق في طرح قضايا التغيير وأسباب التخلف ووضعها موضع نقاش. والكواكبي من هؤلاء الذي ساهموا في نقاش التخلف والتغيير، خصوصًا عبر كتابيه “طبائع الاستبداد ومصارع الاستعباد” و”أم القرى”؛ إذ شكل موضوع تخلف الأمة الإسلامية وكيفية تحقيق تقدمها الهاجس الرئيس في مساهماته الفكرية والنضالية. وتكتسب أفكار الكواكبي جدتها وأصالتها حينما نرى أحداث وظواهر زمنه التي انتقدها وتحدث عنها وعن مشاكلها ونقائصها طويلًا مازالت سائدة في زمننا المعاصر وكأن تاريخنا يكرر نفسه.

يعتبر عبد الرحمن الكواكبي أن مشكل التخلف هو مشكل مركب ومتعدد الأبعاد لا يمكن حصره في مستوى أو عامل محدد وواحد، فالقضية يتداخل فيها ما هو حضاري بما هو فكري وديني وسياسي، غير أن هذا لا يعني غياب التباين في الأولوية لدى الكواكب والتي يوجزها في وجود الاستبداد السياسي الذي يعتبره مكمن الداء. عمومًا، يقسم الكواكبي عوامل التخلف إلى:

1- العوامل السياسية:
تكتسب الأسباب السياسية في رؤية الكواكبي لمشكل وأزمة تخلف الأمة الإسلامية دورًا محوريًا ومركزيًا في تحليلاته ومناقشاته؛ إذ يعتبر أن الاستبداد السياسي من خلال استقلال الحكام وذوي السلطة بالرأي وفرضه بالقوة على سكان البلد، وتقريب علماء السوء والجهالة وإبعاد علماء الأمة الحقيقيين الذين ينطقون بالحق، من معيقات تحقيق الأمة لتقدمها ونهضتها ولحاقها بالأمم الغربية.
والكواكبي لا يكتفي بتبيان الصور والتجليات العامة للاستبداد السياسي وإنما يفرع ويفصل تفصيلًا؛ إذ نجده يحدد في كتابه “أم القرى” تفريعات الاستبداد والتي تتجلى في:
– توحيد القوانين بالقوة وضد رغبة السكان دون أخد الاعتبار بتنوع الخصوصيات.
– التمسك بأصول الإدارة المركزية والتركيز على عنصر الجبايات والجندية.
– التمييز الفاحش بين السكان.
– غياب الكفاءة في الإدارة وحضور عنصر الولاء والقرابة.
– غياب حرية القول والعمل، وفقدان العدل والتساوي في الحقوق.

2- العوامل الدينية:
لا يقف الكواكبي في تحديده وتفصيله لأسباب التخلف في حدود الاستبداد السياسي، وإنما يستحضر بقوة أن الاستبداد السياسي يتبعه أو بالأحرى يوازيه الاستبداد الديني وذلك ما يتجلى حسب الكواكبي في:
– طغيان نزعة الجبر في أفكار الأمة.
– انتشار أفكار غلاة الصوفية وتفننهم في فهم الدين حتى جعلوه لهوًا ولعبًا.
– تزايد حدة الانقسام في الطوائف واختلاف الآراء الدينية.
– البعد عن سماحة الدين وسهولته إلى التشدد والانغلاق.
– نبذ الحرية الدينية وغياب العلم بمزاياها.
– انتشار الشعوذة والسحر والخرافة في عوام المسلمين.
– الاعتقاد بتناقض العلوم الحكمية والعلمية للدين.
ثم ينتقل الكواكبي إلى عنصر آخر له أهميته ودوره، ألا وهو العوامل الأخلاقية ومنها:
– النزوع إلى الجهل واستحبابه والارتياح إليه.
– طغيان نزعة الخمول والكسل، وغياب التناصح والتعاون والتنافس في الخير.
– فساد التعليم بكل فروعه، وغياب التربية الأخلاقية والدينية.
– تزايد التفاوت الاجتماعي مابين الأغنياء والفقراء.
– توهم أن علم الدين قائم في العمائم وفي كل ما سطر في كتاب.
– معاداة العلوم الطبيعية.
هذه هي أهم العوامل وأسباب التخلف لدى الكواكبي والتي أبرزناها بشكل مختصر. غير أن الأمر لا يقف عند عبد الرحمن الكواكبي في حدود وصف وتفسير العوامل والأسباب وإبرازها، بل يطرح صيغة أو صيغًا وإن كانت مختزلة، ولكنها تعبر عن وجهة نظره في وسائل وطرق التغيير الممكنة، والتي يوجزها في ثلاثة مستويات:
1- الأمة التي لا يشعر كلها أو أكثرها بآلام الاستبداد لا تستحق الحرية.
2- الاستبداد لا يقاوم بالشدة إنما يقاوم باللين والتدريج.
3- يجب قبل مقاومة الاستبداد تهيئة ماذا يستبدل به الاستبداد.

إذًا، حسب ما ساقه الكواكبي فالأمة إذا لم تحس بالألم وتعاني ويلاته وتتشوق إلى التحرر والفكاك منه عبر بحثها عن دواء لألمها فهي لا تستحق الحرية؛ إذ نجدها حسب الكواكبي قد ارتاحت إلى الاستبداد وظلمه وتعودت عليه وتكيفت مع بيئته، وبالتالي فهذه الأمة وإن تمردت أحيانًا فإنها تثور لحظة وتستكين؛ لذلك يجب أو من الحتمي على ذوي الشهامة والشجاعة الذين يمتلكون المعرفة والأخلاق والعزيمة أن يتسربوا في صفوف العامة ويبشروا بدعوتهم بسرية عبر عشرات السنين حتى تكتسب العامة أو أكثرها وعيًا بضرورة التغيير وتشعر بحلاوة الحرية وتستشرف آفاقها، فتكون حينذاك قد أعدت نفسها وأصبحت قادرة على اختيار من يستحق أن يحكم. إذًا عملية التربية وسيرورة المعرفة التدريجية، هي العنصر الأساسي والمحوري في رؤية الكواكبي لقضية التغيير، أما إذا كان مطلب التغيير منفصلًا عن ضرورة التربية والعلم فأفقه محكوم بالفشل وهذا ما عبر عنه الكواكبي في قوله: “إدارة الملك إدارة مداراة وإسكات للمطلعين على معايبها حذرًا من أن ينفثوا ما في الصدور فتتعلم العامة حقائق الأمور، والعامة من إذا علموا قالوا وإذا قالوا فعلوا، وهناك الطامة الكبرى” (1).

التقرير