لم تتغير قواعد اللعبة الاستراتيجية في الشرق الأوسط بشكل واضح وحاد خلال أكثر من نصف قرن مضى. وفي أكثر من جولة عاصفة من الحروب التي كادت تقتلع دولا وتغير الخرائط، كما هي الحال في الأزمات الحادة المتتابعة التي جعلت من المنطقة العربية تشهد ميلاد نظم دولية جديدة، بقيت المنطقة تعود إلى قواعدها التقليدية. بينما تشهد مرحلة تصفية التحولات العربية التي نعيشها هذه الأيام بداية تشكل خريطة جديدة لإدارة الصراع، يبدو أنها ستجلب رياح تصفية أو حسم صراعات تاريخية أخرى، الأمر الذي يجعل من قمة عمان نهاية الشهر الحالي محطة فارقة مملوءة بالإدراكات والأمنيات المتناقضة.
على مدى أربعة عقود مضت، كانت الدول العربية المركزية بمثابة الخيول الفتية الجامحة التي تركبها أطراف النظام الدولي في إدارة الصراع الإقليمي، وفق محددات مصالحها. إذ أعيد تشكيل النظام الإقليمي في المنطقة بعد أفول الحقبة الناصرية في مطلع السبعينيات مع إزاحة ليست جوهرية تتم كل بضع سنوات، بينما حافظ ذلك النظام على أرومته في ماراثون لا يتوقف من سباق الأحصنة وعراكها، وهو بالمناسبة لم يكن نظاما عربيا خالصا في يوم من الأيام طوال كل تلك الحقبة، كما هي الحال فيما ينتظره. ومنذ بداية أفول هذا النظام وتهشيمه على مدى أكثر من عقدين، دارت المقاربة الدولية، وأصبحت قناعة اللاعبين الدوليين الكبار، وعلى رأسهم الولايات المتحدة والاتحاد الروسي والاتحاد الأوروبي، أن لا جدوى من الاستمرار في ركوب الأحصنة العربية المتعبة بعد أن أعياها الإنهاك في جري بلا جدوى.
الجديد في هذه القمة أننا نشهد نهاية قريبة لحالة مؤقتة انتقل فيها ثقل النظام العربي، ولعقد من الزمن على الأقل، إلى عواصم دول غير تلك الكبرى تاريخيا والمقصود الثقل الخليجي، ليشكل هذا الثقل نظاما إقليميا فرعيا داخل النظام الإقليمي الكبير. وهو ثقل لا يتطلب توافقا تاما في التفاعلات التعاونية، ولا هوية موحدة للمواقف، فلاحظنا قوة هذا الثقل السياسي حتى من دون وجود مركز قيادي واحد. هذه الحالة الاستراتيجية النامية منذ سنوات، منحتها تحولات “الربيع العربي” قوة ودفعة للإشهار، كما اتضح الأمر في الحضور القوي في مشاهد الأزمات السورية واليمنية والليبية، وحتى الأزمة العراقية، والموقف من الحرب على الإرهاب. ومع هذا يبدو أن هذه المرحلة في طريقها إلى تحول جديد.
والأمر الجديد الآخر، إدراك النظم العربية الأكثر استقرارا في لحظة فارقة أن أوراق اللعبة جميعها ليست في يد الولايات المتحدة، وأن الأخيرة ليست مستعدة هذه المرة لأن تخوض المعارك بدلا منها. فيما، ولأول مرة أيضا منذ عقود، نلمس جدية هذه النظم في البحث عن تنويع خياراتها الاستراتيجية الخارجية.
ما الذي يمكن أن يفعله الأردن لإضفاء طابع من القيمة والاستثمار السياسي في كل هذه التحولات، من خلال هذه القمة وعلى مدى عام من قيادة مؤسسة العمل العربي؟ حسب آخر الباحثين العرب الثقاة في متابعة أحوال النظام العربي الدكتور أحمد يوسف أحمد، فإن العرب والقمة بحاجة ماسة إلى الاستفادة من النموذج الأردني التعاوني في العلاقات العربية. وحسب وصفه، فإن الأردن يعد نموذجا بالدبلوماسية التعاونية، دشن على مدى عقود بعيدا عن الصراعات، ما يجعل الدور الأردني في هذا الوقت مطلوبا ومرغوبا من معظم الأطراف العربية.
وجهات نظر مستقلة أخرى ترى أن الأردن ما يزال يملك وزنا إقليميا وموقعا وكتلة جيو-استراتيجية لها دور حاسم في المنطقة، وعليه أن يستخدم تلك الموارد بحكمة، وأن ينوع خياراته الاستراتيجية. وأن يستثمر قيادة العمل المشترك لإحداث اختراقات مختلفة، وأن يبتعد عن معادلات الاسترضاءات التقليدية التي طالما حدت من قدراته السياسية.
د.باسل الطويسي
صحيفة الغد الأردنية