عام 1970 حصل الكرد على حكم ذاتي في العراق باتفاق بين الحكومة العراقية وقادة الأحزاب الكردستانية، لكن الصراع وقتل الأكراد واضطهادهم بهمجية استمر رغم ذاك الاتفاق ودون أي دعم أمريكي طوال تلك الأعوام. وبكل تأكيد كان الشعب يقاوم لكن خبرة القيادة السياسية كانت شبه معدومة في حين الدافع الثوري كان الأكثر حضورا، الأمر الذي يؤدي إلى المقارنة بين تلك الأعوام وبين عام 1991 حين اندلعت الانتفاضة الكردية الشعبية ضد القوات العراقية.
يومها اكتفى مجلس الأمن الدولي حينها بإصدار قرار 688 القاضي بتأمين سلامة اللاجئين الكرد. وقامت أمريكا وبريطانيا بإنشاء تحالف عسكري وحظر جوي لحماية إقليم كردستان، وقد بدا واضحاٌ أنه لا مفر من البحث لربط مصالحهم مع الكرد، حتى استقر مركز للمخابرات الأمريكية في أربيل عام 1995وبدأت معها مصالح أقوى دولة في العالم واستقر على استملاك مصادر النفط الخام بالإضافة إلى البحث عن اليورانيوم والزئبق في جبال برزان وشيخان ذات المنابع الغزيرة لمواد مجهولة حيث تنحدر من ينابيعها بدل المياه شحوم وزيوت نفطية براقة ما أدى إلى فتح شركة أمريكية مختصة في تلك المنطقة ما زالت موجودة حتى الآن بحماية خاصة.
انتقال أكراد العراق إلى العمل السياسي بعد صراع عسكري طويل في الجبال للدفاع عن أنفسهم دفعهم إلى إغفال أساسيات هذه المهنة ومدى احتوائها على الغدر والدوران في المواقف. الإغفال جاء نتيجة ذلك الواقع الذي أثر في ثقافتهم كثيراٌ لعدم توفر أساسيات الثقافة والمعرفة والعلوم السياسية فأصبحوا بين مطرقة البحث عن الرفاهية بعد عناء طويل وبين التعلم لممارسة السياسة كاستمرار لوجودهم بين شعوب الشرق الأوسط وإنشاء شراكة العيش مع دول الجوار والتعامل بالمثل.
القسم الأكبر اتجه للاقتصاد وقلة منهم ارتبطت بالسياسة بموجب مناصبهم ومن ضمنهم شخصيات قيادية من الحزبين الأساسيين (الاتحاد الوطني الكردستاني والحزب الديمقراطي الكردستاني)، وتحكمت أمريكا بطلابها جيداٌ فبدل أن تقوم بتعليمهم للارتقاء بهم إلى الأفضل ظلت توجههم كيفما تشاء وتتركهم بين أذرع الدول الغاصبة لحقوقهم ليتم التلاعب بهم وفق مصالحها وشعاراتها المرفوعة دوماٌ (الحفاظ على الأمن القومي الأمريكي على حساب الأمن القومي الكردي). وبالتمعن لما جرى في شنكال والموصل وحدود اربيل عاصمة إقليم كردستان حين هاجمها تنظيم «الدولة الإسلامية (داعش) الإرهابي ولم تبق سوى مسافة كيلو مترات لاحتلالها وكيف تدخلت أمريكا بعدها بسلاحها الجوي لصد التنظيم وعودة الكرد للمواجهة. ذلك يؤكد أنهم أرادو أن يثبتوا للكرد بأنه منذ عام 2003 عام الاستقلال الكامل للإقليم وحتى عام 2015 مازلتم غير قادرين على حماية أنفسكم دون دعمِنا.
وعلى الأرجح غالبية الكرد يعتبرون ذلك الدعم انتصاراٌ في حين الحقيقة هي نكسة أخرى للشعب الكردي الذي أصبح ضحية مصالح الدول العظمى، وسيبقى الضحية دون أن يكون له قرار سيادي نتيجة الوصول للجوهر الأساسي للحقيقة الدامغة ألا وهي الخلافات الحزبية والتشتت والثأر داخل البيت الكردي بكل أجزائه الأربعة، وفقدان الثقة بين الأطراف جميعا. وعلى مر العقود فشلت القيادات الكردستانية في أثبات أنفسهم كأصحاب حقوق وقرار ضمن طاولة السياسة الدولية. كان ذلك الفشل هزيمة قاتلة ما زالت تدمر حلم الدولة الكردية مما يؤكد بأن الشعب الكردي دائما منتصر ومقاوم في حين قادته مهزومون على طاولات السياسة بسبب الجهل الثقافي من جهة والمصالح والمكاسب الشخصية والحزبية من جهة أخرى.
بالنسبة لأكراد سوريا الأمر بسيط جدا لمعرفة الحقائق، فالقيادات الحزبية الكردية في سوريا ورغم كثافتهم (حيث أن هناك أحزابا كل عناصرها مسؤولون، ولا وجود لقواعد لهم على الأرض. وبالإضافة للقيادات الكردستانية لم يكن لجميعهم رؤية سليمة لما جرى في الشرق الأوسط في السابق والحاضر، ولا العبرة مما جرى لرؤوساء وأمبراطوريات انتهت بلمح البصر. الاقتصاد في خدمة السلطة دمار.
تظهر الخيوط من تلقاء نفسها لتعرية الحكم الأمريكي وما يفعله بالكرد، فمن بين هذه الأحداث خرج حزب العمال الكردستاني للاستفادة من الثورة الحاصلة في سوريا ودعم حليفه حزب الاتحاد الديمقراطي الكردي. ومن خلال توافقات اللاعبين أصحاب القوة في سوريا استطاع فرض سيطرته ونشر فكره في كردستان سوريا بوسائله الخاصة حتى وصل الأمر به إلى أكبر ثاني قوة تتواجد في سوريا فأعاد الحكم سيناريو شنكال نفسه وحدود اربيل حين قام تنظيم «الدولة» بارتكاب مجازر تعتبر كارثة إنسانية في قرى تابعة لمدينة كوباني حتى وصل إلى داخل المدينة. وكاد التنظيم أن يحتلها حتى تدخل الأمريكان جوا وبتنسيق مع التحالف الدولي لضربه ليعود الكرد إلى مواجهته واللحاق به. وأثبتوا نظريتهم للقوى الكردستانية مرة أخرى التي هي إنكم بدون دعمنا لا وجود لكم. وبالتأكيد لكسر نظرية الأمريكان ومواجهة أخطار الدول الغاصبة لكردستان الكبرى يحتاج الكرد إلى إنشاء قوة سياسية فيما بينهم لفرض وجودهم التاريخي وإثبات حقوقهم في هيئة الأمم المتحدة التي بدورها ستؤمن لهم غطاء يحميهم من عواقب أي كوارث مستقبلية. هذا بحد ذاته خط أحمر عليهم من الأمريكيين والروس ودول المنطقة لضمان استمرار مصالحهم الكبيرة وإعطاء ما هو فائض لهم ليبقوا تحت الخط المرسوم لهم.
أما زيارات وفود سياسية أمريكية بين الحين والآخر للقوات الكردية في سوريا ولإقليم كردستان ما هي إلا زيارات للمقاتلين الذين يحاربون تنظيم «الدولة» وإظهار أنفسهم أمام شعوبهم على أنهم أصحاب القرار ضد محاربة الإرهاب من جهة وأنهم أصحاب ثأر لما فعله الإرهابيون داخل دولهم من تدمير وقتل من جهة أخرى وكأن قوات البيشمركه والقوات الكردية في سوريا فيالق عسكرية تحت أوامر الدول العظمى. وذر الرماد في العيون يأتي من خلال فتح قنصليات ومكاتب بينهم وبين الإقليم وبين الإدارة الذاتية لتكون محدودة العمل والتمثيل وتكاد لا تتجاوز أصابع أيدي العاملين فيها.
حقائق مؤلمة لدى البعض وإحباط في نفوس البعض الآخر لكنها تبقى الحقيقة لإنقاذ ما يمكن إنقاذه والبدء من جديد نحو المستقبل. إن تمكن الكرد من توحيد أنفسهم بقوة سياسية بعيداٌ عن المصالح وتغيير من هم على الواجهة في التمثيل وإعطاء الفرصة لجيل جيل أمر يبعث الأمل في إخراج الشعب الكردي من بركان خريطة الشرق الأوسط الجديد.
زيد سفوك
صحيفة القدس العربي