تبنت الولايات المتحدة الأمريكية موقفاً غير مؤيد للعملية العسكرية التي نفذتها مصر ضد مواقع تنظيم داعش في ليبيا بعد العمل البربري الذي أقدم عليه التنظيم بإزهاق أروح 21 من المسيحيين المصريين. الأمر الذي دفع المراقبين لطرح تساؤلات حول دوافعه، وسيناريوهات تعامل واشنطن مع القاهرة خلال الفترة المقبلة.
موقف متناقص:
عبرت الولايات المتحدة عن موقفها من العملية العسكرية من خلال مسارين متوازيين، حملا في طياتهما تناقضاً مع السياسة الأمريكية تجاه تنظيم داعش.
1- عدم تأييد العملية العسكرية: رغم أن المتحدثة باسم وزارة الخارجية والمتحدث باسم وزارة الدفاع الأمريكية خلال الصحفي اليومي لكل منهما – يوم الثلاثاء 17 فبراير- لم يعلنا صراحة عن عدم تأييد واشنطن للعملية العسكرية المصرية، إلا أن تأكيدهما علي تبني الولايات المتحدة الأمريكية للخيار السياسي كأفضل سبيل للتعامل مع الموقف في ليبيا، يعبر عن رفض للعملية العسكرية التي شنتها مصر ضد مواقع داعش. وهذا الموقف يتناقض مع سياسة الولايات المتحدة، ففي الوقت الذي ترفض فيه التوجه المصري، تتبني الخيار العسكري ضد التنظيم في العراق وسوريا عبر عمليات عسكرية يشنها التحالف الدولي تحت القيادة الأمريكية.
2- التحرك الدبلوماسي المضاد: قامت الولايات المتحدة بتحرك دبلوماسي مضاد للجهود المصرية في التعامل مع الموقف في ليبيا، ففي الوقت الذي سعت فيه القاهرة لحشد القوي الأوروبية والعربية لبناء تحالف لمواجهة التنظيم في سوريا وتوجهها لمجلس الأمن للتحرك ضد مظلة دولية، سارعت واشنطن لإصدار بيان (1+5) والذي وقعته مع كلا من فرنسا وإيطاليا وألمانيا وإسبانيا وبريطانيا، وأكد على الحل السياسي للأزمة في ليبيا وضرورة إجراء حوار بين مختلف الأطراف الليبية، واللافت في هذا البيان أن الولايات المتحدة صاغته مع القوي الأوروبية التي تحاول مصر حشدها في الجهود التي تقودها ضد التنظيم، كما أنه يسعي لتقويض موقف مصر الداعي إلي ضرورة إزالة الحظر عن تسليح الجيش الليبي. وجاء استباقا لمشاورات مجلس الأمن بشأن إصدار قرار حول الوضع في ليبيا.
دوافع ثانوية وهيكلية:
هناك دوافع ثانوية وراء الموقف الأمريكي من العملية العسكرية المصرية يرتبط بظروف وتداعيات العملية ذاتها، ودوافع هيكلية ترتبط بتزايد نفوذ مصر الإقليمي، علي النحو التالي:-
أولاً: العملية العسكرية تمت دون التنسيق مع الجانب الأمريكي: وفق تصريحات المتحدثة باسم وزارة الخارجية الأمريكية والمتحدث باسم البنتاجون في مؤتمريهما الصحفي اليومي يوم الثلاثاء 17 فبراير قامت مصر بالعملية العسكرية بدون تنسيق مع الجانب الأمريكي، ويبدو أن هذا الأمر أثار انزعاج الإدارة الأمريكية، فالتحرك المصري يعكس استمرارية الاستقلالية في اتخاذ القرار، خاصة وأن مصر ليست جزء من التحالف الدولي الذي تقوده الولايات المتحدة ضد التنظيم، ووفقاً لتقديرات الجانب الأمريكي فالعملية العسكرية التي شنتها مصر ليست الأولي، ففي أغسطس الماضي نشرت تقارير الصحف الأمريكية أن مقاتلات مصرية وإماراتية شنت ضربات ضد أهداف للتنظيم في ليبيا، ورغم نفي المسئولين المصريين التعليق علي تلك التقارير، نقلت الصحف الأمريكية آنذاك عن مسئولين أمريكيين قولهم أنها تمت أيضاً دون تنسيق مع الجانب الأمريكي.
ثانياً: العملية العسكرية سببت ضرراً غير مباشر لمصداقية السياسة الأمريكية ضد داعش: التحرك العسكري المصري بقوة وسرعة ضد تنظيم داعش في ليبيا، قوض من مصداقية الولايات المتحدة التي ما زالت تخوض منذ أكثر من ثمانية أشهر معركة ممتدة ضده التنظيم في العراق وسوريا والنتائج التي حققتها لا تتناسب مع الحشد الدبلوماسي والعسكري الذي وفرته الإدارة، ناهيك عن أن الرئيس أوباما طلب من الكونجرس تفويض بعمل عسكري يمتد لثلاثة سنوات، الأمر الذي يؤشر إلى الحرب الأمريكية ضد التنظيم قد تمتد لسنوات، في الوقت الذي يحذر فيه الرئيس الأمريكي أيضاً من مخاطر تضخيم قوة داعش، مما يدلل مرة أخري علي التناقضات الأمريكية. وفقدان المصداقية يقوض بشكل غير مباشر من صورة الولايات المتحدة كقوة دولية قادرة علي حسم المعركة ضد التنظيم.
ثالثاً: تصاعد نفوذ مصر الإقليمي: السياسات الإقليمية التي تنتهجها مصر بعد ثورة 30 يونيو أصبحت تمثل مصدر قلق للولايات المتحدة الأمريكية، فمصر في تحالف استراتيجي غير معلن مع دول الخليج، وعلاقات مصر مع القوي الدولية الأخرى روسيا والصين وبعض الدول الأوروبية مثل فرنسا وألمانيا وبريطانيا، تفتح الباب أمام تلك القوي للعب دور مؤثر في منطقة الشرق الأوسط الذي ظلت حكراً علي الولايات المتحدة لمدة طويلة.
رابعاً: خروج مصر من دائرة النفوذ الأمريكي الذي يتراجع إقليمياً: في الوقت الذي يتزايد فيه النفوذ المصري إقليمياً يتراجع التأثير الأمريكي علي مصر، نتيجة لتوتر العلاقات بين البلدين وموقف واشنطن من ثورة 30 يونيو، فالولايات المتحدة ونتيجة لحساباتها قدرت أن ممارسة ضغوط علي مصر قد يدفعها في اتجاه القبول بالرؤية الأمريكية للعملية السياسية الداخلية، وأن وقف المساعدات العسكرية، سيؤثر علي قدرات الجيش المصري ويدفع النظام الجديد في مصر لتقديم تنازلات، وكانت النتيجة أن مصر تحركت بعيداً عن النفوذ التقليدي للولايات المتحدة لبناء تحالف جديدة وشراء صفقات تسليح من دول غير الولايات المتحدة. وبعقود تساوي قيمة المساعدات العسكرية لسنوات. وتراجع تأثير الولايات المتحدة الأمريكية علي مصر أدي إلي نتيجة أخري غير مباشرة هي تراجع التأثير الأمريكي في الشرق الأوسط بشكل عام، ففي الوقت الذي بدا أن التأثير الأمريكي آخذ في التراجع في المنطقة منذ ثورات الربيع العربي، جاءت سياسات مصر الإقليمية لتزيد من هذا التراجع، فمصر كقوة إقليمية أصبح قادرة علي التأثير في التفاعلات السياسية والعسكرية في الإقليم بصورة أكبر من قبل.
المسارات المحتملة للموقف الأمريكي بعد الضربة العسكرية:
بناء علي ما سبق، فإن التحرك الأمريكي للتعامل مع مصر بعد عمليتها العسكرية في ليبيا، من المحتمل أن يتخذ مسارين:-
الأول: استمرارية الضغوط علي مصر لتحجيم دورها الإقليمي في المنطقة من خلال استثمار التوتر بينها وبين الدول الإقليمية الأخرى خاصة تركيا وقطر، وكذلك الحد من التقارب المصري مع الحلفاء الأوروبيين.
الثاني: التقارب مع مصر والقبول بالأمر الواقع، المتمثل في أنها أصبحت طرفاً إقليمياً محورياً محوري في المنطقة، ويرجح أن يحدث التقارب من خلال اتخاذ خطوات علي تصعيد تحسين العلاقات، وربما اتخاذ قرار بإعادة المساعدات العسكرية. ومع الأخذ في الاعتبار مجمل العوامل والظروف الأخرى المرتبطة بالعلاقات المصرية الأمريكية بعيداً عن تطورات الوضع الإقليمي، من المرجح أن تستمر الولايات المتحدة في تبني الخيار الأول في التعامل مع مصر خلال الفترة المقبلة. ما لم تحدث ظروف جديدة تفرض علي واشنطن إعادة تعديل سياستها تجاه مصر.
المركز الاقليمي للدراسات الاستراتيجية