في ساعات الصباح الباكر من 2 مايو 2011، تم إنزال فريق صغير من أفراد الجيش والمخابرات الأمريكية داخل منزل غامض في أبوت آباد، باكستان. وكان هذا الفريق يهدف لتحقيق أمرين أساسيين، هما: اعتقال أو قتل أسامة بن لادن، وجمع أكبر قدر من المعلومات الاستخبارية حول زعيم تنظيم القاعدة وشبكته. الرصاصة التي وضعت في رأس بن لادن أدت إلى إنجاز المهمة الأولى، وفريق الاستخبارات قام بإنجاز المهمة الثانية.
ومن بين ما تم جمعه: 10 من محركات الأقراص الصلبة، وما يقرب من 100 من محركات الأقراص الصغيرة، ودزينة (= 12) من الهواتف المحمولة. كما تم أخذ أقراص فيديو رقمية تحتوي على ملفات صوت وفيديو، ورزمة من المواد المكتوبة بخط اليد، ومواد من الصحف والمجلات. وبعد أيام من الغارة، وصف مسؤول كبير في الاستخبارات العسكرية الأمريكية ما تم الحصول عليه بأنه “أكبر مجموعة من المواد المتعلقة بأحد كبار الإرهابيين تم الحصول عليها حتى الآن“. ووفقًا لمدير الاستخبارات الوطنية، جيمس كلابر، أنتج فريقه أكثر من 400 تقرير منفصل بناءً على المعلومات الواردة في تلك الوثائق.
ولكن الأمر المذهل حقًا هو أن لا شيء حدث بعد ذلك. لقد توقف تحليل هذه المواد بشكل مفاجئ. ووفقًا لخمسة من كبار مسؤولي الاستخبارات الأمريكية، لم يلمس أحد تلك الوثائق لأشهر، وربما لسنة حتى.
وفي ربيع عام 2012، وبعد عام من الغارة التي قتل فيها بن لادن، وقبل ستة أشهر من الانتخابات الرئاسية لعام 2012؛ أطلقت إدارة أوباما حملة منسقة لإقناع الشعب الأمريكي بأن الحرب الطويلة مع تنظيم القاعدة تسير نحو نهايتها. وفي خطاب ألقاه بمناسبة الذكرى السنوية للهجوم، توقع جون برينان، كبير مستشاري مكافحة الإرهاب في إدارة أوباما ومدير وكالة الاستخبارات المركزية في وقت لاحق، زوالًا وشيكًا لتنظيم القاعدة. وفي اليوم التالي، أي في 1 مايو 2012، أدلى أوباما بتصريح جريء، قال فيه: “إن الهدف الذي وضعته لهزيمة القاعدة وحرمانها من فرصة إعادة بناء نفسها بات الآن في متناول أيدينا“.
وقدم البيت الأبيض 17 وثيقة مختارة بعناية لمركز مكافحة الإرهاب في أكاديمية ويست بوينت العسكرية لدراستها، ووصل فريق المحللين في المركز إلى النتيجة التي أرادتها إدارة أوباما؛ حيث وجد هذا الفريق أن بن لادن كان في عزلة وعاجزًا نسبيًا، ولم يكن في آخر أيامه سوى رجل حزين يجلس وحيدًا على قمة الشبكة الإرهابية المتداعية.
وعلى الرغم من أن هذه النتيجة قدمت صورة مطمئنة، إلا أنها كانت خاطئة أيضًا. وقال الجنرال مايك فلين، المدير السابق لوكالة استخبارات الدفاع، في مقابلة مع شبكة فوكس نيوز: “كنا لا نزال نواجه تزايد تهديد القاعدة. ولم يكن هذا أمرًا متعلقًا بباكستان وأفغانستان والعراق فقط. لقد رأيناه يتنامى في اليمن أيضًا. ورأينا بوضوح كيف كان يزداد في شرق إفريقيا“. وأضاف: “التهديد لم يتم تلاشيه، وأردنا أن نعرف ما الذي يمكننا معرفته من خلال تلك الوثائق“.
وبعد معركة بيروقراطية ضارية، أعطي فريق صغير من المحللين التابعين لوكالة استخبارات الدفاع والقيادة المركزية فترة زمنية محدودة والحق في قراءة تلك الوثائق فقط. وبالفعل، بدأ الفريق بإصدار التحليلات التي تعكس ما كان يقرأه في تلك الوثائق.
وفي نفس الوقت الذي كان فيه أوباما يبني حملته الانتخابية على فرضية الموت الوشيك لتنظيم القاعدة، أكد أولئك الذين تمكنوا من الوصول إلى وثائق بن لادن أن العكس هو الصحيح. ويقول الجنرال فلين: “بحلول ذلك الوقت، كانت قوة القاعدة قد تضاعفت. وكنا نعرف ذلك“.
ولأن هذا لم يكن يريد البيت الأبيض بقيادة أوباما سماعه، فقد قطعت الإدارة سبل الوصول إلى الوثائق، وأعطت تعليمات للمسؤولين عن الفريق بالتوقف عن إنتاج التحليلات على أساس ما قرؤوه فيها.
ويكشف الوصول المحدود إلى مجموعة الوثائق عن خطأ مزاعم الإدارة الأمريكية حول تنظيم القاعدة. لقد كان بن لادن يمتلك سيطرة واضحة على تنظيمه، وشارك عن كثب في إدارة شؤونه يوميًا. والأهم من ذلك، وبالنظر إلى النمو الكبير لتهديد الإرهاب في السنوات التي تلت، أظهرت الوثائق أن بن لادن كان يخطط للتوسع. ويقول الجنرال فلين، إن بن لادن كان ينصح أعضاء القاعدة فيما يتعلق بكل شيء، بدءًا من تنفيذ عمليات محددة في أوروبا، وصولًا لأنواع المحاصيل التي يجب على أتباعه زراعتها في شرق إفريقيا.
وحتى الآن، لم يمنح الجمهور حق الوصول سوى إلى 24 من أصل 1.5 مليون وثيقة تم الحصول عليها في أبوت آباد. وعلى الرغم من أنه من المستحيل رسم صورة كاملة لتنظيم القاعدة استنادًا إلى هذه المجموعة الصغيرة من الوثائق المتاحة للجمهور، إلا أن هذه الوثائق، بما في ذلك تلك التي أفرج عنها الأسبوع الماضي في محاكمة إرهابيي بروكلين، تكشف عن تفاصيل جديدة مذهلة.
ووفقًا لرسالة بتاريخ يوليو عام 2010، سعى شقيق نواز شريف، رئيس الوزراء الحالي في باكستان، للتوصل إلى اتفاق سلام مع الجهاديين. وقد تم إبلاغ بن لادن أن شهباز شريف، الذي كان آنذاك رئيس وزراء ولاية بنجاب، أراد عقد صفقة مع حركة طالبان الباكستانية. وقالت الرسالة التي كتبها عطية عبد الرحمن، وهو أحد كبار نواب بن لادن، إن الحكومة “مستعدة لإعادة تأسيس علاقات طبيعية طالما امتنعت (حركة طالبان الباكستانية) عن تنفيذ أي عمليات في ولاية البنجاب“. وتكشف نفس الرسالة أيضًا عن كيفية استخدام تنظيم القاعدة وحلفائه للتهديد بتنفيذ الهجمات الإرهابية كتكتيك تفاوضي في محادثاتهم مع الجيش الباكستاني. وتظهر الرسالة كذلك أن الاستخبارات الباكستانية كانت على استعداد للتفاوض مع القاعدة.
ووصفت رسالة أخرى من رسائل بن لادن شبكة تنظيم القاعدة في إيران؛ حيث احتجز النظام الإيراني بعض كبار قادة تنظيم القاعدة، ولكنه أفرج عنهم في نهاية المطاف، وهو ما أدى إلى وجود خلافات بين الجانبين.
ولكن ملالي طهران سمحوا لتنظيم القاعدة باستخدام الأراضي الإيرانية باعتبارها ممر عبور رئيس للمقاتلين والنفاذ من وإلى جنوب آسيا. وفي واحدة من الرسائل، تظهر تفاصيل الخطة التي وضعها يونس الموريتاني، وهو واحد من كبار مساعدي بن لادن، للانتقال إلى إيران، وكيف أنه من هناك سوف يقوم بإرسال الإرهابيين للمشاركة في تنفيذ عمليات في جميع أنحاء العالم.
وخلال اندلاع الانتفاضات العربية في عام 2011، جادل مسؤولون في إدارة أوباما بأن تنظيم القاعدة “همش” من قبل الاحتجاجات السلمية. إلا أنه، وقبل أسابيع فقط من مقتله، أرسل بن لادن عملاءه إلى ليبيا وأماكن أخرى للاستفادة من تلك الاضطرابات. وكتب عطية عبد الرحمن في أوائل أبريل 2011: “هناك نهضة إسلامية جهادية جارية في شرق ليبيا، ونحن ننتظر هذا النوع من الفرص“. وبدوره، اعتقد بن لادن بأن الاضطرابات تقدم لتنظيم القاعدة “فرصًا غير مسبوقة” لنشر أيديولوجيته المتطرفة.
ولا تزال المعركة حول وثائق بن لادن مستمرة. ويقول هارفي إنه يعتقد بأنه يجب رفع السرية عن هذه الوثائق وجعلها متاحة للجمهور في أقرب وقت ممكن، بعد اتخاذ الاحتياطات اللازمة. وأما النائب ديفين نونيز، وهو رئيس لجنة الاستخبارات في مجلس النواب، فقد أدرج فقرة في مشروع قانون تفويض الاستخبارات لعام 2014، يطلب فيها تحقيق ما يريده هارفي. وتعد المعلومات الواردة في هذه الوثائق ذات صلة مباشرة بالعديد من التحديات التي تواجهها الولايات المتحدة اليوم، بما في ذلك الاتفاق النووي مع النظام الإيراني وصعود تنظيم القاعدة في شبه الجزيرة العربية وازدياد قوة الدولة الإسلامية في العراق وسوريا.
التقرير