في محاولة لتبديد المخاوف المثارة من سيطرة الحشد الشعبي العراقي على الحدود مع سوريا لفتح ممر مباشر من ايران لسوريا، تراجعت قوات الحشد الشعبي بشكل مفاجئ عن خطتها للسيطرة على الحدود العراقية السورية من جهة الموصل، وأعلنت تعهدا واضحا بتسليم مواقعها لقوات الشرطة العراقية. إذ قال نائب رئيس هيئة الحشد الشعبي أبو مهدي المهندس إن القوات ستسلم مواقعها التي كانت قد استعادتها من سيطرة داعش مؤخرا إلى شرطة الحدود العراقية. وأضاف أبو مهدي أن المعارك التي تخوضها القوات ضد داعش ستستمر حتى تتم استعادة كامل الشريط الحدودي بين العراق وسوريا وصولا إلى معبر الوليد بمحافظة الأنبار.جاء ذلك بعد يومين من إعلانه أن قوات الحشد الشعبي مستعدة لدخول الأراضي السورية لمحاربة داعش، مشيرا إلى أن القوات ستتابع أي وجود له خارج العراق يهدد الأمن العراقي. والسؤال الذي يطرح في هذا السياق ما هو السبب الجوهري في هذا التغير؟
ويرى المتابعون للشأن العراقي أن هذا التراجع باكتشاف قوات الحشد الشعبي معطيات ميدانية تمنع من استمرارها في مغامرة التقدم للسيطرة على مواقع جديدة في محيط منطقة البعاج التي شهدت منذ أيام مقتل الجنرال شعبان نصيري أحد أبرز قادة الحرس الثوري الإيراني. وأن إدارة الرئيس دونالد ترمب ورئيس الحكومة العراقية حيدر العبادي لا يمانعان في تورط الحشد الشعبي في معارك منطقة البعاج الصحراوية عند الحدود السورية، لافتة إلى أنها مناطق صحراوية قاحلة، يمكن أن تضيع فيها جيوش كاملة، وهي معاقل تقليدية للجماعات المتشددة، التي تعرف طرقها ومداخلها بشكل تفصيلي. وإن اكتشاف الحشد الشعبي للفخ الأميركي دفع قياداته إلى التراجع بشكل سريع متعللين بأن دورهم يقف عند تحرير المواقع وتسليمها للقوات العراقية التي يتحركون تحت غطائها.
ويرى المتابعون للشأن العراقي أيضًا أن قوات الحشد الشعبي لم تكن لتعبأ بالتحذيرات الأميركية الأخيرة لولا أنها وجدت أن الوقائع على الأرض صعبة، وأن تقدمها في مناطق صحراوية مكشوفة قد يسهل على طائرات التحالف الدولي قصفها خاصة بعد ضربة التنف، إذ حاول حزب الله اللبناني فتح طريق من جنوب سوريا إلى إيران عبر الاقتراب من قاعدة التنف الجوية جنوبي سوريا، في محاولة لاستثمار الوضع الأمني في العراق وسوريا للتقدم بسرعة إلى الحدود للسيطرة عليها وتأمين العبور الإيراني من العراق إلى سوريا إلى لبنان ضمن حلم الهلال الشيعي. لكن الطائرات الأميركية قصفت رتلا كان يضم 3 آلاف من مقاتلي الحزب وحلفائه. وهي رسالة ذات مضمون قوي من قبل الإدارة الأمريكية لخصومها في سوريا والعراق. وبحسب خبراء عسكريين، فإنّ الضربة التي لم تكن سوى عمل محدود يراد من خلاله توجيه رسائل للفاعلين المحليين والإقليميين، أظهرت مدى أهمية المناطق الحدودية في التفكير الاستراتيجي الأميركي الذي يمتد إلى مرحلة ما بعد تنظيم داعش في سوريا والعراق، وعملية ترتيب النفوذ داخلهما، كما أظهرت مدى جدية واشنطن في منع أي قوى عاملة بالوكالة لمصلحة إيران من السيطرة على مناطق الحدود ونقاط التواصل بين بلدان الإقليم. وهي رسالة في نفس الوقت لإيران بأن الخط اللوجستي الجيوستراتيجي الذي تطمح له من طهران إلى بيروت مرورا ببغداد ودمشق هو أضغاث أحلام، ولن يسمح لإيران ببناء إمبراطوريتها في الشرق الأوسط.
ويعتقد مراقبون للشأن العراقي أن التراجع المفاجئ لقيادات الحشد الشعبي عن التقدم باتجاه الحدود جاء بعد يوم واحد من التصريحات القوية لمسؤولين أكراد عن أن قوات البيشمركة لن تسمح لأي جهة باختراق مواقع نفوذها في سنجار. كان القيادي في الحشد الأمين العام لمنظمة بدر هادي العامري قال مؤخرا إن قوات الحشد ستتقدم باتجاه مدينة القائم العراقية المقابلة لمدينة البوكمال في ريف دير الزور الشرقي على الحدود السورية العراقية، الأمر الذي يجعلها في مواجهة مع قوات سوريا الديمقراطية التي تسيطر على ريف محافظةالحسكة الجنوبي الشرقي.وعقب هذه التصريحات حذّر الناطق الرسمي باسم قوات سوريا الديمقراطية طلال سلو قوات الحشد الشعبي العراقية من دخول الأراضي التي تسيطر عليها القوات في محافظة الحسكة شرقي سوريا. وقال سلو: “سنتصدى لأي محاولة من قبل الحشد الشعبي للدخول لمناطق سيطرة قواتنا، لن نسمح لأي قوات بالدخول ضمن مناطق سيطرتنا”. واعتبروه رسالة قوية على أن الأكراد المدعومين من قبل الإدارة الأمريكية، مستعدون لمواجهة تمدد الحشد الشعبي، وهي الرسالة التي التقطتها قيادات شيعية وبادرت إلى التأكيد على متانة العلاقة بالبيشمركة والاعتراف بمواقع نفوذها.
حيث صرح أبو مهدي المهندس “لدينا علاقات تاريخية مع قوات البيشمركة وننسق معها على مستوى عالي”. وحول تقدم الحشد الشعبي نحو سنجار الخاضعة لسيطرة قوات البيشمركة ومصير المناطق التي وقعت تحت سيطرة الحشد، أكد “أن تلك القضايا ستحل بالطرق السياسية لا العسكرية، ووفق الاتفاقيات التي وقعت بين الحكومة العراقية وإقليم كوردستان”. وحذّر المتابعون للشأن العراقي من أن إعلان قوات الحشد الشعبي تسليم القرى المسترجعة من داعش إلى القوات العراقية قد يكون مناورة هادفة إلى إبعاد الأضواء الإعلامية عن أنشطتها في الحدود بما يسمح لها بالتحرك بحرية، ويجنبها التصعيد مع الأكراد، مستبعدين أن يتوقف الحشد أن أداء دوره كأداة هدفها تحقيق مصالح إيران.
يبدو الوضع على الحدود بين العراق والأردن وسوريا في غاية الخطورة لاسيما بعد أن تحولت الحدود الجنوبية لسوريا من التنف إلى سنجار في العراق إلى بؤرة توتر حيث أصبح عدة شركاء في الحرب يتنافسون عليها بالنيابة عن رعاتهم الإقليميين. وزادت أطماع إيران بمحاولتها مؤخرا فتح الطريق من الحدود العراقية عند معبر التنف ليصل بدمشق ومنها إلى بيروت. فبينما يسحق داعش في معاقلها الأخيرة في الموصل والرقة يسارع وكلاء طهران إلى إنشاء ممر بري بين إيران والعراق وسوريا وحزب الله في لبنان، مما ينذر بتحوّل استراتيجي جغرافي استثنائي. وكما من الممكن أن يضع هذا التحوّل نحو عشرين مليون عربي سني تحت وصاية شيعية فعلية في سوريا والعراق، الأمر الذي قد يُنتج على الأرجح تيارا سنيا متطرفا جديدا يحل محل تنظيم داعش. وهنا نتساءل كيف يجب على إدارة الرئيس الأمريكي دونالد ترمب التعامل مع إيران التي تعبث في استقرار الإقليم؟
يجب على إدارة الرئيس الأمريكي دونالد ترمب أن تحدد أهدافاً نهائية واضحة لكي تنجح في أي سياسة تجاه إيران. هل تريد فقط التصدي لعدوان طهران الإقليمي، كما فعلت مع سلوبودان ميلوسوفيتش في تسعينيات القرن الماضي؟ أم أنها تسعى إلى تحقيق سياسة احتواء طويلة الأمد لإحداث تغييرات أساسية في السياسة في إيران (بمعنى آخر، الصيغة الأولية لجورج كينان في مرحلة ما بعد الحرب الباردة)، أو حتى تغيير النظام؟ وإذا كان الأمر كذلك، فكيف يمكن تنفيذ هذه السياسة من الناحية العملية؟ إن الخبراء المختصين في شؤون إيران في الولايات المتحدة منقسمون حول ما إذا كان إسقاط النظام أو استمرار سياسة التقارب التي اتبعها أوباما هي أفضل طريقة لإحداث تغيير في إيران؛ كما أن حلفاء واشنطن الدوليين المحتملين منقسمون حول هذه القضية أيضاً. ولذلك إذا كانت الإدارة الأمريكية تريد تعظيم فرصها لكسب المؤيدين في الداخل والخارج فسيكون توضيحها حاسم الأهمية في تحديد سياستها تجاه إيران”. والسؤال الذي يطرح في هذا السياق هل إدارة ترمب تقدر على إيران؟
وحدة الدراسات العراقية
مركز الروابط للبحوث والدراسات الاستراتيجية