حتى كتابة هذه السطور، ما نزال نعرف المزيد عن سلمان العبيدي، الإرهابي الذي دخل إلى ملعب مانشستر وقتل 22 شخصاً، بمن فيهم عشرة مراهقين أو أصغر. ومنذ اللحظة التي فجر فيها العبيدي عبوته الناسفة يوم 22 أيار (مايو) الماضي، كان من الواضح أن هذه المؤامرة هي خطة أكثر تعقيداً وتطوراً وطموحاً من أعمال الإرهاب السابقة على شواطئنا. لم يكن العبيدي يعمل وحده.
منذ العام 2013، تعقبت مع العديد من زملائي من كلية كينغز كوليدج في لندن، تدفق المقاتلين الأجانب المسافرين إلى سورية والعراق. وأصبح واضحاً لدينا، وقد تفحصنا عن قرب تلك المجموعات، ونظرنا في شبكات العلاقات الشخصية والتفاعلات من خلال الإنترنت، أن التحدي الذي تشهده المملكة المتحدة معقد ومتنوع.
ما تظهره البيانات هو أن التفاعلات في العالم الحقيقي تلعب دوراً كبيراً بدرجة عالية في عملية انتقال شخص من مجرد داعم للتطرف ليصبح إرهابياً.
من الأفضل التفكير في هذا الواقع وفق المفاهيم التالية. ثمة شريحة كبيرة من الناس الذين يستهلكون محتوى متطرفاً لكل أنواع الأسباب -عن طريق الصدفة، ولغايات مهنية، ومن منطلق الفضول، أو من خلال التجريب. ثم تلتزم أعداد أصغر بشكل كبير بالتطرف أيديولوجياً، ويصبح أفرادها داعمين نشطاء. ثم تتجند نسبة أصغر أيضاً، وإما أن يسافر أفرادها إلى الخارج لغايات إرهابية، أو يقومون بتنفيذ هجمات إرهابية في الوطن.
تقدم شهادة جيك بيلاردي، الأسترالي الذي تحول إلى اعتناق الإسلام وانضم إلى “داعش” بعمر 17 عاماً، مساعدة كبيرة في فهم هذه الآليات. وتكشف رواية منشورة ذاتياً على مدونته أنه أراد الانضمام إلى “داعش” لأشهر عدة، لكنه فشل لأنه “اصطدمت بعقبة رئيسية واحدة في الطريق، كيف أستطيع أن أدخل؟ لم تكن لدي أي اتصالات لتساعدني. وبعد محاولات فاشلة للعثور على اتصال، فقدت كل أمل في الهجرة (إلى سورية) في هذه الحالة”.
عند ذلك، قرر تنفيذ سلسلة من الهجمات بالقنابل على ملبورن؛ ولم يتم تنفيذ هذه الهجمات أبداً، لكنه عثر في نهاية المطاف على طريقة للوصول إلى سورية. وخلال أشهر من قيامه بذلك، أصبح مفجراً انتحارياً للتنظيم، حيث نسف نفسه في الرمادي في العراق في آذار (مارس) من العام 2015.
تبرز حالة بيلاردي أهمية الشبكات في العالم الحقيقي، والتي تساعد في كثير من الأحيان في التحول إلى الإرهاب. وهذا هو السبب في أننا نشاهد تركيزات من المقاتلين الذين يظهرون من موقع معين. وكانت مجموعة صغيرة من الناس من ضواحي “كولتون” و”موس سايد” و”فالوفيلد” في منطقة مانشستر، التي نشأ فيها العبيدي، قد انضمت إلى “داعش”. وما عليك سوى أن تراقب اتصالاته، وستظهر لك صورة مثيرة للقلق.
عرف العبيدي وارتبط بواحد ربما يكون من أسوأ الشباب البريطانيين الذين انضموا إلى “داعش”، رفائيل هوستي، الذي اتخذ الاسم الحركي، أبو القعقاع البريطاني، (تجدر الإشارة إلى أن اثنين من المقاتلين البريطانيين اتخذا هذا الاسم، وخلطت وسائل الإعلام بينهما في كثير من الأحيان). وحتى وفق معايير “داعش” المنحرفة، كان هوستي عقائدياً غير مقدر للعواقب وسادياً بشكل خاص.
خلال أسابيع من وصوله إلى سورية، مع نهاية العام 2013، أصيب هوستي بجروح في قدمه بينما كان يقاتل في محافظة دير الزور. وكان تعافيه بطيئاً، ما استدعى خضوعه لعدة عمليات في مستشفى ميداني متنقل يديره جراحون من “داعش”.
وعندما لم يعد قادراً على القتال، تم وضع هوستي في الغرف الخلفية. وهناك ركز على الدعاية والتجنيد وإلهام الناشطين بشن هجمات في الوطن، وهو شيء ناسب شخصيته، خاصة وأنه تخيل نفسه عبقرياً في كل شيء.
كان هوستي جزءاً من شبكة مقاتلين من مانشستر، والتي تضم أنيل راؤوفي ومحمد جافيد. وقد سافرت المجموعة إلى تركيا سوية بعد أن أعطاهم شقيق جافيد الأكبر، جمشيد، 1400 جنيه إسترليني لشراء تذاكر. وتم اعتقال جمشيد جافيد لمحاولته الانضمام إلى “داعش” بعد أن اتصلت عائلته بالشرطة. وترتبط مجموعة هوستي بمجموعتين أخريين، واحدة من بورتسماوث، والأخرى من كارديف. وكانت مجموعة بورتسماوث تحت قيادة افتخار جمعان، الذي أصبح أبرز وأكبر مجند لـ”داعش” في البلد. ومن دونه، ربما كان الجهاديون المحتملون من بورتسماوث وكارديف ومانشستر سيجدون القيام بالرحلة أصعب عليهم بكثير.
أسس جمعان رد فعل تسلسلي من التجنيد الأُسي -بشكل شبيه بنظام بيع هرمي- حيث يقوم كل واحد من مجنديه بتجنيد مجموعة أخرى من الناس. وهذا هو نموذج التجنيد الواضح في عموم البلد، والذي يفسر السبب في تركز مجموعات من المقاتلين غالباً في بعض المجتمعات والمناطق المعينة.
ولا يعمل هذا النموذج في بريطانيا فقط. فهناك أكثر من 59 شخصاً ارتبطوا بـ”شريعة 4 بلجيكا”، وهي نسخة دولية من مجموعة تأسست في بريطانيا على يد أنجم شودري، وسافرت إلى سورية، والتي يجيء معظم أعضائها من المحور الجغرافي لمناطق أنتويرب، فيلفوردي، وبروكسل. وينطبق الشيء نفسه على السويد، حيث عرف 11 مقاتلاً بأنهم استقروا في ضاحيتين صغيرتين في غوتنبيرغ- أنغيريد وبيرجسيون.
عندما حقق جهاز المخابرات الهولندي في “شريعة 4 هولندا”، خلص إلى أن هذه الحركات تخلق “بيئة يجتمع فيها الناس الذين يحملون أفكاراً متشابهة ويطورون أفكاراً متطرفة لأيديولوجيات جهادية. وقادت دينامية هذ المجموعة إلى التطرف السريع للكثير من الأشخاص، بالإضافة إلى محاولات جوهرية للانضمام إلى الجهاد في سورية”.
يحتفظ العديد من المقاتلين باتصالات مع أصدقاء في الوطن، والذين يصبحون نتيجة لذلك أكثر احتمالاً بكثير للانخراط في نشاط إرهابي من نوع ما. وعلى وجه التحديد، من داخل مثل هذا النوع من المحيط خرج العبيدي ومخططه المميت.
على ضوء أن “داعش” قرر منح الأولوية للهجمات الإرهابية، يركز أعضاؤه الغربيون جهودهم الآن على هذا الموضوع بدلاً من جلب مجندين للقتال في سورية أو العراق. وعندما فتح رجل مسلح من “داعش” النار في شاطئ تونسي في العام 2015 وقتل 38 شخصاً (بمن فيهم 30 بريطانياً) سارع أحد مقاتلي كارديف إلى الثناء على الهجوم.
وفي ذلك الحين، قال ناصر مثنى إن الحادث “يشفي صدور المؤمنين ويغيظ الكافرين”. وأراد أن يرى المزيد من الهجمات من هذا القبيل، وأرسل صوراً له في معمل لصنع قنابل “داعش”، حيث عرض أكثر من 30 عبوة ناسفة بدائية. وتساءل عندما حمّل الصورة على موقع التواصل الاجتماعي “تويتر”: “وهكذا تخاف المملكة المتحدة من عودتي ومعي المهارات التي اكتسبتها؟”.
هذا هو التحدي الذي تواجهه الأجهزة الأمنية البريطانية. ويشكل إقفال الملاذات الآمنة للإرهابيين واحداً من الأهداف الرئيسية التي ينتهجها الساسة بعد 11 أيلول (سبتمبر)2001. والفكرة هي أنه يجب حرمان الإرهابيين من الفضاءات غير المحكومة؛ حيث يستطيعون التدرب وحيث يشنون هجمات مميتة في عموم العالم كما فعلوا في الولايات المتحدة.
يظهر هجوم العبيدي كم نحن بعيدين عن إنجاز هذا الهدف. وقد ذكر وزير الداخلية الفرنسي، جيرارد كولومب، أصلاً أن العبيدي “كانت له صلات” مع سورية، لكنه لم يسترسل في شرح طبيعة هذه الصلات أو شكلها. والمعنى المقصود، بطبيعة الحال، هو أنه كان مقاتلاً أجنبياً عائداً، لكن هذا يبدو غير غير مرجح. أما الأكثر احتمالاً فهو أن اتصالاته السورية مقصورة على معرفة بعض أعضاء تلك المجموعات من المقاتلين الأجانب، لكن تدريبه الفعلي جرى في مكان آخر-في ليبيا، البد الذي غادره والداه حين قدما إلى بريطانيا.
ثمة القليل من السلوى في هذا. فمع أن انتباهنا ومواردنا متركزة بشكل رئيسي، ومفهوم، على سورية، فإن تكوُّن النظام العالمي قد لامس ما هو أكثر من مجرد الساحل الشرقي للبحر الأبيض المتوسط. لقد أصبح شمال أفريقيا مرة أخرى بيئة متاحة للإرهابيين، حيث تنتشر المجموعات المتشددة في عموم ليبيا وأجزاء من شبه جزيرة سيناء المصري. وقد تعمقت البيئات التي ينعدم فيها القانون والتي ينشط الإرهابيون فيها في منطقة القرن الإفريقي واليمن أيضاً.
لا تستطيع بريطانيا أن تعزل نفسها تماماً عن المناخ العالمي المحموم أو عن هذه التقلبات. ويشكل ذلك تحدياً شديداً لأجهزتنا الأمنية التي يمكن إصلاحها بسرعة.
لقد وفرت أزمة الحكم في الشرق الأوسط وما وراءه هبة للاعبين العنيفين من غير الدول، وعلى نحو يمدد التهديد من الإرهاب الدولي لفترة جيل قادم على الأقل، وربما حتى أطول.
شيراز ماهر
صحيفة الغد