استطاعت القليل من النساء الوصول إلى القاطع “ب” في سجن رومية سيئ الصيت. هذا هو المكان الذي يحتفظ فيه لبنان بالمجرمين المتطرفين. وهو أيضاً نفس المكان الذي تم فيه التخطيط لتفجيرات انتحارية، كما قيل، والذي وصفه وزير الداخلية اللبنانية بأنه “غرفة عمليات” لتنظيم “داعش”. وهكذا، عندما بدأت مايا ونانسي أول الأمر مقابلة الجهاديات المدانات في السجن، أثارت الشقيقتان اللبنانيتان الارتباك والشك لدى حراس السجن والسجناء على حد سواء.
كان اهتمام الشقيقتين ياموت قد بدأ مع مشروع جامعي احتاج إلى دعم من وزير العدل اللبناني السابق للسماح بدخولهما إلى سجن رومية. وكان محاولة مشروع كهذا شيئاً جديداً بالنسبة لشابتين فتيتين، وحتى للمحترفين. والشقيقتان عاملتان اجتماعيتان شرعيتان، وهو ما يعني أنهما تبحثان في قضايا لها صلة بالقانون والأنظمة القانونية، مثل أصدار توصيات عن الحالة العقلية ورعاية الطفولة أو إهمالها.
تقول مايا ياموت: “كان غريباً على رجال الأمن اللبناني أن يشاهدونا في السجن. وسألونا: لماذا تريدان القيام بهذا العمل؟ اذهبا واختارا موضوعاً آخر”. حتى أن حرس قوات الأمن الداخلي اللبناني لم تعرض أي اهتمام بالمقابلات التي تريدان إجراءها.
بعد سبعة أعوام على أطروحة رسالة الماجستير عن “دور العمل المجتمعي الشرعي في الإرهاب” وأثره على المجتمع، أصبحت الشقيقتان زائرتين اعتياديتين للسجن. وباستثناء المحامين وأفراد العائلة، كانت الشقيقتان هما المدنيتين الوحيدتين اللتين تلتقي بهما سجينات القاطع “ب”. وهما تقابلان بانتظام أكثر من 70 نزيلة -حوالي 10 % من إجمالي عدد النزيلات في القاطع- من لبنان وسورية والعراق وفلسطين وتركيا وروسيا والسودان. وذكر أن نصفهن تقريباً قد تراجعن عن التطرف، وهن بصدد إنهاء فترة محكومياتهن. وتشكل السجون مراكز تجنيد رئيسية للتطرف، مما يضع مايا ونانسي في مرجل للتطرف العنيف المحتمل.
نذكرهن بامهاتهن أو شقيقاتهن
بالنسبة للمرأتين اللتين في أواخر العشرينات من العمر، لم يكن كسب ثقة سجينات القاطع “ب”، حيث العديدات منهن يخشين انتقام زميلاتهن من النزيلات الأخريات لأنهن تحدثن، بالمهمة السهلة. لكن مايا ونانسي تقولان إنهما تستخدمان نفس التكتيكات التي يستخدمها المجنِّدون الجهاديون: الثقة والاحترام والتعاطف. وفي بعض الحالات، كان جنسهما كامرأتين ميزة. وتقول نانسي: “لقد ذكرناهن بشقيقاتهن أو أمهاتهن”.
بدلاً من السجائر، تجلب الشقيقتان أطباق المعمول المطعم بالفواكه أو المكسرات. وتقول نانسي: “الإحساس بالرائحة مثير للعواطف والذكريات وله تأثير قوي. السجائر سوف تذكرهن بفكرة السجن وبالجهاد وبالحرس الذي يستوجبهن؛ أما الحلويات فسوف تعيدهن وراء إلى حياتهن العائلية قبل الجهاد”.
من مقابلاتهما مع الرجال في رومية، كسبت الشقيقتان رؤية فريدة إلى الأدوار المتعددة التي تلعبها النساء في الحفاظ على الأيديولوجية المتطرفة والدعاية لها، وكيف يستطعن لعب دور حيوي في نزع التطرف أيضاً. وتقول نانسي: “تشكل النساء مفتاحاً في استمرار الأيديولوجية، وهن يقمن بدور فعال في تنظيم داعش، على الرغم من عدم ظهوره في الدعاية”.
ينحصر التصور العام لنساء “داعش” بشكل عام في كتيبة الخنساء المكونة كلها من الإناث، والمعروفة بقناصاتها ومهاراتها في تصنيع أجهزة التفجير البدائية. وهناك العديد من التقارير أيضاً عن “عرائس داعش”. ولكن، بعيداً عن العمل بانفراد “كزوجات”، فإن النساء اللواتي يدعمن “داعش” غالباً ما يساعدن في اللوجستيات وتهريب الجهاديين من مكان إلى آخر.
هكذا كان الحال مع جمانة حميد -المرأة الوحيدة التي قابلتها العاملتان الاجتماعيتان مباشرة. وقد سجنت لنقلها سيارتين محملتين بالقنابل إلى داخل لبنان، وأفرج عنها كجزء من صفقة تبادل سجناء في العام 2015 في مقابل جنود لبنانيين مختطفين. وفي حالتها، كان الدافع الحقيقي لعملها هو الوضع المالي، وفق ما قالته الشقيقتان.
طبقاً لما قاله رفائيللو بانتوشي، مدير الدراسات الأمنية الدولية في معهد الخدمات الموحدة الملكية، والذي يتخذ من لندن مركزاً له، فإن النساء اللواتي يلتحقن بهذه التنظيمات المتطرفة يعتقدن بأنهن تقدميات. ويرين أنفسهن كـ”جزء من حركة اجتماعية. وهن مكرسات للقضية ويؤمن بها تماماً”.
ويستشهد بانتوشي بمثال ماريكا سالويت، التي كانت تجند النساء عبر موقع جهادي في أفغانستان. لكن دور النساء ليس مقصوراً على تجنيد الأخريات من جنسهن؛ إنهن يلعبن دوراً في حث الرجال على الانضمام.
على الرغم من عدم وجود تقديرات رسمية لعدد النساء اللواتي انضممن إلى “داعش” أو القاعدة، فإن داليا غانم يزبك، مؤلفة كتاب “الوجه الأنثوي للنزعة الجهادية” تضع الرقم عند 550 جهادية غربية تقريباً، وآلاف الأخريات من الشرق الأوسط وشمال إفريقيا. وتقول: “في تونس وحدها، يعتقد بأن 700 امرأة قد انضممن إلى داعش، بينما في الغرب تشكل الفرنسيات والبريطانيات الرقم الأعلى”.
كأمهات وأخوات وزوجات، تساعد النساء في نشر الأيديولوجية الجهادية. وقد لاحظ مقاتلو “داعش” ذلك. وهم يتوددون إلى النساء بشكل خاص للانضمام، ويجعلون الحرب تبدو مجيدة، بينما يقللون كثيراً من شأن العنف. وتسدي أم عبيدة، التي يعتقد بأنها امرأة غربية في منبج، “المشورة” لنساء أخريات يخططن للسفر إلى سورية للانضمام إلى التنظيم، حيث “تأتي مساهمتهن في الوطن، ومن خلال الوصول إلى نساء أخريات على الإنترنت”، كما ذكرت مجلة “نيويورك”.
تتوقع الدكتور يزبك أن “يستمر دور النساء كمجندات ومسهلات، وهو يتطور راهناً في ساحة المعركة. وتستشهد بحوادث أخيرة انخرطت فيها قناصات إناث في سرت بليبيا، بالإضافة على الموصل، إلى جانب الهجوم الذي تم إحباطه بالقرب من كاتدرائية نوتردام في باريس في أيلول (سبتمبر) الماضي.
بينما يتكبد “داعش” خسائر في معركة الموصل، فإنه يتطلع إلى مناطق جديدة للحصول على الدعم. ويقول أيمن دين، المجنِّد السابق لتنظيم القاعدة، والذي تحول إلى مخبر للمخابرات البريطانية لموقع سيريا ديلي: “يحاول داعش الآن إغواء نساء ممرضات وطبيبات للانضمام إليه. إنهم يحتاجون الآن إلى هؤلاء النساء اللواتي يتوافرن على هذه المهارات في ميدان المعركة في الموصل”.
مجنِّدو “داعش” فائقو الذكاء
كما شرح دين أيضاً كيف يتم التجنيد الفعلي الآن عبر المشاركة بالفيديو، وليس على “فيسبوك” أو “تويتر” وعبر مكالمات هاتفية من واحد لواحد مثل التلغرام أو الواتسب. وقد زادت التكنولوجيا من قوة ووصول التجنيد من الأساس، مما يؤكد على وظيفة الأشخاص الذين يعملون على نزع التطرف من الناس، مثل الأختين ياموت.
تقول نانسي أن مجندي “داعش” هم أناس أذكياء للغاية. “المقاتلون” في لبنان، كما تشير إليهم، فطنون ويعرفون كيف يستهدفون مجموعات متعددة، وهو ما يفسر الصعوبة البالغة في وقفهم. وغالباً ما تصبح المجموعات الجهادية بدائل توظيف مربح. لكن الأمر لا يتعلق بالمال وحسب. فمع الأسلحة تقدم المجموعة سراب السلطة، ومع الأيديولوجية تقدم الهوية والشعور بالانتماء. وهي أمور ذات قبول عريض يتقاطع مع عموم الطبقات المجتمعية.
من الممكن تبويب الدوافع وراء الأشخاص الذين أجريت المقابلات معهم في أربع فئات: “مرضى نفسانيون”؛ أسباب عرقية وجيوسياسية؛ الدين؛ الانتقام. وعلى الرغم من هذا الفارق الواسع، فإن باستطاعة الشقيقتان قياس النجاح نزع التطرف من النزيلة من خلال ملاحظة التغيرات التيت تطرأ طيلة فترة مقابلاتهن، كما تقول مايا.
مع ذلك، “في السجن لا يستطعن (السجينات) إظهار أنهن تغيرن بطريقة صريحة لأنهن يخشين من أن تسيء النزيلات المتشددات إليهن”، وتتصل معظم السجينات المفرج عنهن مع العاملين الاجتماعيين، مما يعطيهم الفرصة لملاحظة أي تغيرات فعلية. وحتى الآن، كانت نتائج إعادة تأهيل سجينتين وإجراء علاج جماعي لأربعة أخريات إيجابية. ولكن، لا تنجح جميع الحالات. وتقول مايا إن بعض السجناء ممن يتم الاتصال بهم لا يريدون التغير، وقد عاد رجلان من هذا النوع إلى سورية وتركيا.
من الممكن أن تلعب نجاحات الشقيقتين دوراً رئيسياً في ثني آخرين عن التطرف عبر تقديم صوت لأولئك الذين تطرفوا، كما تقول دانا يزبك. وينظر إلى العائدين كأناس شرعيين، وهم يعرفون كيف يتحدثون إلى مجتمعاتهم الخاصة، كما شرحت. ومن الأكثر ترجيحاً أن يولي شخص يدرس الانضمام إلى مجموعة جهادية ثقته إلى “عائد” منه أكثر مما يثق بضابط مؤسساتي. ويشكل منح هؤلاء شعوراً بالغاية وخياراً آخر أموراً بالغة الأهمية في منع الانضمام.
أبرز عمل الشقيقتين مع الناس، قبل وبعد التطرف، الحاجة إلى التركيز على أولئك الذين تم إحراز النجاح في نزع تطرفهم. ومسلحتان بخبرة الأعوام التي قضتاها في إجراء مقابلات مع السجناء في رومية، أسستا منظمة “أنقذوني” (ريسكيو مي) غير الحكومية لمنع الجريمة ومحاربة التطرف، والتي تعمل حيث تمس حاجة المجتمع إليها أكثر ما يكون -مع المراهقين والمراهقات والأولاد والبنات بشكل خاص، وتنفيذ برامج تستهدف المدارس والمفصولين.
وتقول نانسي: “نحتاج إلى التركيز على قصص النجاح وتسليط الضوء عليها، وليس على الناحية السلبية فقط. يجب علينا أن ننشر هذه المعرفة”.
غاجا بيليغريني-بيتولي
صحيفة الغد