يعدُّ الاستثمار الدوليُّ أحد الظواهر الاقتصادية والمالية التي انتشرتْ مع زوال عصر القوميَّات، وظهور العالَم كوَحْدةٍ عالَميَّةٍ مكتملة الملامحِ والقَسَمات، تتداخل فيها أمورُ الاقتصاد والسياسة، والثقافة والاجتماع والسلوك، ويكون الانتماء فيها للعالم، تحولت الدولة من كونها مرْكزًا للاهتمام إلى أسواقٍ عالمية ودولية وقُوى تشارك في تحديد القرار الاقتصادي للدولة، مع انتشار ممارساتٍ ومعايير مختلفةٍ تُخرجها مِنْ محيطها المحليِّ الضيق إلى الخارج، فالتكنولوجيا والاتِّصال وحركة رأس المال التي تَزَامَن ظهورُها في نهاية القرن الثامن عشر، وتطوُّرها السريع في القرن العشرين أثناء الثورة الصناعية في أوروبا، ومن ثَم دخول مجالاتٍ تِقَنِيَّة كثيرة في نهاية القرن العشرين وبداية القرن الحادي والعشرين، كان لهم الدورُ الرئيس في إحداث تغيُّرات عالمية سريعة ومتدفقة، أدَّت إلى ظهور كياناتٍ ضخمة وذاتِ أثر بالغ في الاقتصاد العالمي، كالاستثمار الدولي وصيَغِه البديلة؛ كشركات مُتَعَددةِ الجنسيات.
فشهد الوقت الراهن توسيعَ هذه الاستثماراتِ الدولية؛ حيث إنها تحاول رفعَ مستوى المعيشة للبُلْدان المُضيفة، وذلك من خلال نقل رأس المال والتكنولوجيا، وبالتالي تقود إلى تقاربٍ في المستويات المعيشية العالمية؛ ولذلك تَعمل الدولُ المضيفة على توفير أو تهيئة المُناخ لهذه الاستثمارات، وذلك بتقديم حوافِز لتشْجيعها؛ كالإعفاءات الجمركيَّة، وضمانات الاستثمار الوافد، وأيضًا دراسة الأسلوب الضريبِي، وذلك مِن خلال تخفيضاتٍ في الضرائب على المستثمر الدولي، ومن الملحوظ أنَّ المستثمرين الدوليين، أو هذه الكِيَاناتِ العملاقة، قد تُقْدم على مجازفةٍ ومغامرة نتيجة مواجهتِها لبعض الصعوبات والمخاطر المتعلِّقة بالعائد الاستثماري، أو صعوبات سياسية حاصلة من ناحية عدم توفر الاستقرار السياسي في البلد المضيف.
ولأهمية الاستثمار الدولي في تعزيز اقتصاديات الدول أصدرت منظمة غير حكومية مستقلة تُسمى ” Basel AML=Anti-Money Laundering Index” لائحة لدول التي تشكل أكثر خطرًا للاستثمار فقد ضمت اللائحة قائمة من 146 دولة متسلسلة حسب نسبة الخطر والمجازفة في الاستثمار فيها لعام 2017م، وأقل دولة خطرًا، أو بمعنى آخر الأكثر أمانًا، هي دولة فنلندا وتسلسلها رقم 146. أما الأكثر خطرًا، أو الأكثر مجازفة، هي دولة إيران وتسلسلها رقم 1. أما العراق، و”الشكر” للحكومات النزيهة المتعاقبة، ليست حتى في القائمة! وربما هذا معروف لدى غالبية المتابعين للشأن العراقي، فالعراق وفق تصنيفات خبراء السياسية الدولية، يصنف على أنه “دولة فاشلة” بفعل الفساد الذي استشرى في كل مفاصل الدولة العراقية منذ عام 2003م وحتى يومنا هذا.
لكن السؤال الذي يُطرح في هذا السياق، فعلى الرغم من رفع القوبات الدولية على إيران -التي يضم سوقها 80 مليون مستهلك-، في كانون الثاني/يناير عام 2016م، لماذا اعتبرت المنظمة إيران من أكثر الدول خطرًا على الاستثمار الدولي؟ ويمكن إجمال ذلك بالأسباب الآتية:
أولًا- إن أغلب الاستثمارات الأجنبية المطروحة في إيران على تناقض تام مع أهداف التنمية المستدامة للأمم المتحدة، لأنها تذهب إلى قطاع النفط والغاز بالدرجة الأساس، وهي لا تخدم، ولا تفيد السكان المحليين سوى تعزيز سلطة النظام والحرس الثوري.
ثانيًّا- أن الحريات في إيران معدومة، وأن منع الحريات بلغ حد منع أطباق التقاط القنوات الأجنبية، وقيود على الإنترنت، وأن الخصوصية الفردية على الإنترنت محفوفة بمخاطر شديدة، يمكن أن تترتب على ذلك آثار خطيرة بالنسبة لسلامة الموظفين والعملاء وبيع المنتجات الحاسوبية.
ثالثًا- أن عمل الأطفال في إيران منتشر بشكل واسع، إذ يُقدر عددهم بأكثر من ثلاثة ملايين طفل عامل.
رابعًا– أن الأمن في العمل يُمثل تحديا رئيسا، إذ لا يوجد قانون يحمي العاملين الذين يرفضون العمل في ظل ظروف خطيرة، وأن معدل وفيات العاملين في إيران هو ثماني مرات أعلى من المتوسط العالمي. فوفقًا للطب الشرعي أنه بين أيار (مايو) وتموز (يوليو) 2015، توفي 650 شخصا نتيجة لحوادث العمل، وأصيب عشرة آلاف ومائة وتسعة بجروح.
خامسًا- التمييز في العمل إذ يحظر على الأقليات الدينية، والعرقية، أو المعارضين السياسيين، والمنشقين عن النظام، حق ممارسة مهن معينة، وأن هناك ثلاثة ملايين لاجئ أفغاني يوجدون في إيران، مليونان منهم في وضع غير قانوني حيث يتم استغلالهم في أعمال في ظروف محفوفة بالمخاطر، وبأجور متدنية، ومن دون ضمان أو أي حقوق أخرى. أن الأقليات تمثل 50 في المائة من السكان الإيرانيين، وهي تخضع لتمييز شديد في مجال الحقوق، ففي المناطق الكردية، على سبيل المثال، فإن معدل العاطلين عن العمل هو الأعلى بين المناطق الأخرى، ومستوى المعيشة هو الأدنى، والانخراط في التعليم محدود ولا توجد هياكل أساسية كافية وخدمات أساسية.
سادسًا-تتركز الاستثمارات الأجنبية في طهران، في حين تتطلب التنمية إنشاء فرص عمل في المناطق التي تقطنها الأقليات يصاحبها فرض حصص من العاملين المحليين، على سبيل المثال.
وفي هذا السياق لفتت “إيزولدا أكازي”، المسؤولة عن سياسات التنمية في منظمة “أليانس سود” (تحالف الجنوب) إلى أن إيران احتلت المرتبة 131 في تصنيف الشفافية الدولية لعام 2016 من ناحية انتشار الفساد من مجموع 176 بلدا، وأن حقوق العمال معدومة، ولا يوجد في إيران قانون لحماية العمال من الاستغلال، أو التمييز، أو الإساءة، أو الإيذاء، أو هدر الحقوق. وقالت، إن المضايقات الجنسية لا يتم الإبلاغ عن معظمها، لكنها موجودة في مكان العمل.
سابعًا- ضعف سيادة القانون في إيران، والاعتقال التعسفي، والافتقار إلى حرية التعبير، والعدالة ليست مستقلة. ولا يوجد قانون لحماية العمال من الإيذاء أو التمييز أو المضايقة. ويُطرد العمال دون أن يتمكنوا من الدفاع عن أنفسهم.
لهذه الأسباب مجتمعة جاءت إيران في المرتبة الأولى من حيث الدولة الأكثر خطرًا على الاستثمار الدولي والطاردة له.
وحدة الدراسات الإيرانية
مركز الروابط للبحوث والدراسات الاستراتيجية