في خضم الحديث عن إجراء إقليم كردستان العراق لاستفتاء بشأن استقلاله عن العراق، جاء إعلان الأكراد في سوريا عن التحضير لإجراء أول انتخابات في مناطق سيطرتهم بشمال البلاد، ضمن مسعى كردي لاستغلال المتغيرات الإقليمية لاقتناص أكبر قدر ممكن من المكتسبات، والاستفادة من الدعم الدولي لهم في سياق الحرب على الإرهاب لفرض وجودهم في المنطقة.
لكن، هذا الواقع يقلق إيران ويثير حفيظة تركيا، فأي تقدم سيحققه الأكراد في المنطقة سينعكس على التحرك الكردي في تركيا ونظيره في إيران. وستعمل كل واحدة منهما من جهة، وبالتعاون بينهما من جهة أخرى، على وأد أحلام الأكراد ومشاريعهم من بينها المشروع الذي كشف عنه لـ”العرب” عبدالكريم عمر، الرئيس المشترك لهيئة الخارجية في الإدارة الذاتية الديمقراطية الكردية.
قال عمر إنه “لدى الأكراد مشروع لانعقاد مؤتمر قومي كردستاني وتأسيس مرجعية سياسية كردية يتم فيها توحيد الاستراتيجية السياسية للأكراد لمواجهة استحقاقات المرحلة بعد مئة عام من سايكس بيكو بالإضافة إلى توحيد الدبلوماسية الكردية والتنسيق بين القوات العسكرية في الأجزاء الأربعة لحماية المكتسبات ومواجهة المخاطر في هذه المرحلة الحساسة من تاريخ الأكراد والمنطقة”. ويؤكد القيادي الكردي أن تركيا وإيران “تتفقان ضد الأكراد رغم كل الخلافات الموجودة بينهما، وبالرغم من أن لكل منهما أجندته المتعارضة مع أجندة الآخر إلا أنهما تجتمعان ضد الأكراد”.
محور تركي إيراني
على مدار التاريخ، كانت العلاقات بين تركيا وإيران تسير وفق مقولة رجل الدولة البريطاني اللورد بالمرستون “في السياسة ليس هناك عدو دائم أو صديق دائم بل هناك مصالح دائمة”. لقد باعدت بينهما نقاط تنافس كثيرة وصل الأمر بشأنها إلى حد الاقتتال والحروب (بين العثمانيين والفرس)، مثلما جمعت بينهما مصالح مشتركة كثيرة. وفي عهد الدولة التركية الحديثة، سيطرت الواقعية السياسية على العلاقة بين البلدين وغطت المصالح الاقتصادية على تاريخ طويل من الصراع والتنافس.
دخلت العلاقة منعرجا جديدا غيرت تركيا منذ مجيء حزب العدالة والتنمية إلى السلطة عام 2002 وأساسا مع بروز رجب طيب أردوغان (رئيسا للوزراء ثم رئيسا للدولة التركية)، الذي بدأ ببلورة سياسة مختلفة تعيد البوصلة نحو العالمين العربي والإسلامي، وكانت الطريق الأسهل في ذلك الوقت، القضية الفلسطينية والتظاهر بعداء إسرائيل، وهو المجال الذي استثمرت فيه أيضا إيران بشكل كبير. لكن التبيان الأكبر بين دولة المرشد ودولة السلطان جاء مع موجة الربيع العربي حيث اختلفت الطرق وتناقضت المصالح.
لكن، حتى ذلك لم يمنع أنقرة، التي استفادت كثيرا من العقوبات الدولية على إيران، من الوقوف إلى جانب طهران خلال مرحلة التفاوض حول النووي الإيراني. وتعود اليوم المصالح لتجتمع مرة أخرى بين إيران وتركيا، التي استماتت في الفترة الماضية لتقديم نفسها كحليف سني في سياق مواجهة دول المنطقة لسياسات إيران ومحاولاتها تأمين نفوذها عبر هلال شيعي يمر بالعراق وسوريا ولبنان وصولا إلى البحر المتوسط.
لكن، اليوم تقف تركيا وإيران على منصة واحدة وهما تتطلعان إلى النجاح الذي يحققه الأكراد على أكثر من صعيد، وفي أكثر من جهة. لذلك، تتجه أنقرة وطهران إلى رفع مستوى التنسيق السياسي والأمني في ما بينهما للتعامل مع التطورات التي تشهدها الملفات التي تحظى باهتمام خاص من جانبهما، وهو ما بدا جليا في الزيارة التي قام بها رئيس أركان القوات المسلحة الإيرانية اللواء محمد باقري إلى تركيا في 15 أغسطس 2017 والتي استمرت ثلاثة أيام، بشكل يشير إلى أن “توافق الضرورة” أصبح هو العنوان الرئيسي رغم وجود بعض الخلافات.
كانت زيارة باقري رئيس الأركان الإيراني إلى تركيا هي الأولى منذ اندلاع الثورة في عام 1979. وقد أعلنت إيران على إثرها أن علاقتها مع تركيا دخلت مرحلة جديدة ومهمة وقطعت شوطا مهما في المجال التكاملي. وبعد أسبوع من تلك الزيارة، قال الرئيس التركي إن عملية مشتركة مع إيران ضد المقاتلين الأكراد “مطروحة على الدوام”.
ويشير المتابعون إلى أن المحادثات بين أردوغان وباقري “أظهرت قدرا كبيرا من التنسيق الأمني والعسكري إزاء الملفين الكردي والسوري، بعد سنوات من الاتهامات المتبادلة بين الطرفين، وشن الحرب بالوكالة ومباشرة في ساحات سوريا والعراق”.
ونقلت صحيفة ديلي صباح، المقربة من الحكومة التركية، عن مصادر دبلوماسية قولها إن الزيارة تعد “حدثاً هاماً، لم تكن لتتم لولا استعداد الجانبين لعقد صفقات حول كل من سوريا والعراق”. كما وصفت وكالة الأنباء الرسيمة الإيرانية إرنا الزيارة بـ”غير المسبوقة” في تاريخ العلاقات بين البلدين وسط الخلافات بينهما.
وذكرت صحيفة توركي، أن الوفد الإيراني قدم، خلال الزيارة “اقتراحا مفاجئا” لأنقرة لإطلاق تعاون مشترك ضد قوات الأكراد في منطقتي قنديل وسنجار في شمال العراق. وأشارت الصحيفة التركية إلى أن الاقتراح شكل مفاجأة لأنقرة حيث اشتكى المسؤولون الأتراك منذ زمن طويل بأن طهران تركت تركيا تحارب كوادر حزب العمال الكردستاني وبنيته المالية وأنشطته السياسية.
لكن، ولأن إيران تسعى دائما لتجنب إعلان أي عمليات عسكرية خارجية لها، لذلك نفت إيران بعد يومين ما أعلنه أردوغان عن عمل عسكري مشترك حيث قال التليفزيون الرسمي الإيراني، إن قوات الحرس الثوري الإيراني نفت أن تكون إيران قد قامت بأي عمليات عسكرية مع تركيا ضد حزب العمال الكردستاني خارج الحدود الإيرانية.
ويعد وجود وحدات حماية الشعب الكردية الجناح المسلح لحزب الاتحاد الديمقراطي الكردي السوري، على طول الحدود بين البلدين، مصدر قلق رئيسيا لأنقرة. وتعد أنقرة هذه الجماعات “إرهابية” وتتهمها بالانتماء إلى حزب العمال الكردستاني، الذي شن حركة تمرد منذ عام 1984 ضد القوات التركية في جنوب شرقي تركيا.
استقلال وانتخابات
خاضت تركيا معارك استمرت لعقود ضد حزب العمال الكردستاني، الذي تعتبره منظمة إرهابية، فيما حاربت إيران جناحه المعروف لديها بحزب الحياة الحرة الكردستاني، المصنف “إرهابيا” من قبل الحرس الثوري. ولأن المجموعتين محظورتان في بلاديهما فلهما قواعد خلفية في العراق.
ويعتقد نواف خليل، مدير المركز الكردي للدراسات، أن التفاهمات التركية الإيرانية ضد الأكراد ستتم ضمن ملفين مختلفين عن بعضهما البعض. ويقول لـ”العرب” مبينا “في العراق هنالك اعتراف رسمي بالفيدرالية جاء بعد استفتاء شعبي شارك فيه 12 مليون عراقي لذلك فإن التهديد الإيراني أو التركي يعد تدخلا سافرا ليس فقط في الشأن الكردي بل في العراقي أيضا”.
ويرى أنه ليس معلوما حتى الآن شكل التهديد والتدخل من جانب النظامين الإيراني والتركي في إقليم كردستان لكن على الأغلب “سيلجأ الجانب التركي إلى ابتزاز الأكراد في الإقليم عبر الورقة الاقتصادية وخاصة مبيعات النفط التي تصل إلى تركيا وهي مع شديد الأسف تعتبر الجهة الضامنة التي توضع في بنوكها أموال النفط الكردي، أما إيران فمعروف وجودها ونفوذها وسلطتها وسطوتها في العراق وهي ستستخدم كل السلطات باسم الشرعية”.
ويؤكد خليل أن الأكراد في سوريا والعراق سيتعاملون مع التفاهمات الحديثة بين البلدين من خلال تقوية الجبهة الداخلية وتعزيز العلاقات مع القوى الدولية؛ فيما ترى فوزة اليوسف، الرئيسة المشتركة للهيئة التنفيذية لفيدرالية شمال سوريا التي أطلقها المكون الكردي، أن التوازنات الدولية والإقليمية لم تعد مثل السابق.
وتقول لـ”العرب” إن “الاتفاقية التركية الإيرانية لن تحصل على ما نتج عن اتفاقية الجزائر التي حصلت بين العراق وإيران في السبعينات. الأكراد تحولوا إلى رقم صعب في معادلة الشرق الأوسط وتغير الكثير في الفترة الماضية إلا أن تركيا وإيران مازالتا تتعاملان مع القضية الكردية بطرقهما الكلاسيكية”.
وتعتبر إلهام أحمد، الرئيسة المشتركة لمجلس سوريا الديمقراطية، أن الأكراد أثبتوا أن لهم القدرة على التعـامل مع أعقـد القضـايا.
ومن المقرر أن يجري الأكراد في شمال سوريا انتخابات على ثلاث مراحل تبدأ في 22 سبتمبر، قد اعتبرها خبراء أنها تأتي في سيـاق تكـريس كـردي للأمر الواقع المـفروض.
وتوضح إلهام أحمد أن “انتخاب الكومونات ستبدأ بتاريخ 22 سبتمبر 2017 ومن بعدها سيستمر انتخاب المدن والمقاطعات والأقاليم. لا تزال مرحلة الاستعداد والتحضير مستمرة”. وتضيف أن الهدف من الانتخابات في الشمال السوري هو “ملء الفراغ الإداري”.
ويقول عبدالكريم عمر إن “هذه الانتخابات تعتبر نموذجا ديمقراطيا قد يحتذى به في المناطق الأخرى لبناء سوريا الجديدة، بعد الاتفاق بين كل المكونات (أكراد وعرب وآشوريين سريان وتركمان وأرمن) على عقد اجتماعي ضمن إطار التقسيمات الإدارية في المجلس التأسيسي لفيدرالية شمال سوريا الديمقراطية”.
ويضيف أنه بموجب ذلك يتم تقسيم فيدرالية شمال سوريا إلى ثلاثة أقاليم وهي:
1 – إقليم الجزيرة ويتألف من مقاطعتي قامشلو والحسكة.
2 – إقليم الفرات ويتألف من مقاطعتي كوباني وتل أبيض.
3 – إقليم عفرين ويتألف من مقاطعتي عفرين والشهباتم.
وستتم الانتخابات على ثلاث مراحل:
1 – انتخابات الكومونات بتاريخ 22 /10 /2017.
2 – انتخابات الإدارات المحلية (مجالس القرى والبلدات والنواحي والمقاطعات) بتاريخ 03 /12 /2017.
3 – انتخابات مجالس الشعوب الديمقراطية (مجالس الأقاليم) ومؤتمر الشعوب الديمقراطية (برلمان فيدرالية شمال سوريا الديمقراطية) بتاريخ 19 /01 /2018.
فشل تركي إيراني
يعتقد نواف خليل أن الجانبين التركي والإيراني مهما حاولا التقارب فإن هنالك عوامل عديدة تحول دون الوصول إلى التفاهم الكامل وإن كانا متفقين بشكل كلي ضد الشعب الكردي في بلديهما فإيران تعرف أن تركيا في وضع سيء وعلاقاتها متوترة مع دول الجوار والإقليم والعالم.
ويضيف أن إيران تدرك أن تركيا بحاجة لمن يساعدها، ولهذا فإنها لن تقدم كل ما تطلبه تركيا التي لو أصرت على المشاركة الإيرانية في الحرب ضد حزب العمال الكردستاني فذلك يعني المزيد من التنازل التركي للنظام السوري أو الخروج كليا من سوريا وهو ما لا يمكن إن ترضى به تركيا.
ويذكّر خليل بأن تركيا وإيران تعرفان أكثر من الجميع أن الهجوم سيعني توسيع رقعة عمليات العمال الكردستاني وكذلك حزب الحياة الكردستاني الذي يملك قوات عسكرية تملك خبرات لا يستهان بها وأنه سينسق مع العمال الكردستاني لرد الهجوم التركي”.
ويدعو إلى النظر للمشهد المعقد من بعد استراتيجي لأن قواعد الاشتباك تحددها واشنطن وموسكو؛ والدولتان تضعان محاربة داعش وجبهة النصرة على رأس جدول الأعمال وهو ما تقوم به قوات سوريا الديمقراطية.
ويشير عبدالكريم عمر إلى أن حكومة العدالة والتنمية “قامت بارتكاب المجازر بحق الشعب الكردي وخاصة في آمد (ديار بكر) ونصيبين وجزره وغيرها من المدن”.
ويضيف “لم تكتف أنقرة بذلك بل قامت باحتلال جرابلس وإعزاز والباب بالتنسيق مع طهران وموسكو ودمشق، وتخلت عن المعارضة وسلمت حلب إلى النظام كل ذلك للوقوف في وجه فيدرالية شمال سوريا ومنع ربط مقاطعة عفرين بمقاطعتي الجزيرة وكوباني”.
بالنظر إلى التجارب السابقة ومجالات الخلاف بين الطرفين، لا يتوقع المراقبون أن يثبت التوافق التركي الإيراني، بل إنه قد ينقلب بمجرد تغير التوازنات في المنطقة مرة أخرى وتوضح المسارات التي يسير إليها الصراع في سوريا، والحرب على داعش. كما أن الولايات المتحدة لم تظهر حماسا كبيرا لمشروع أكراد سوريا واستقلال أكراد العراق.
ويتوقع روبرت فورد، السفير الأميركي السابق في سوريا، أن يواجه أكراد سوريا موقفا صعبا في المستقبل، ويقول، في في مقابلة مع موقع ذا ناشونال، إنه “بعد طرد تنظيم الدولة الإسلامية من الرقة ودير الزور، هناك احتمال أن تبدأ الميليشيات الإيرانية وقوات الأسد هجوما ضد الأكراد ولن يحترموا وقف إطلاق النار”.
لكنه، يحذر من أن واشنطن في هذه المرحلة “لن ترسل قوات للدفاع عن أكراد سوريا، فليس هناك قبول شعبي أميركي لهذه الفكرة. ودونالد ترامب مثل باراك أوباما يريد تجنب التورط في حروب أهلية أجنبية”. وخلص قائلا إن “الرئيس التركي رجب طيب أردوغان سيكون سعيدا بهجوم الأسد، والأكراد سيرتكبون خطأ جسيما إذا ظنوا أن أميركا ستأتي لتنقذهم”.
صحيفة العرب اللندنية