يحب الرئيس دونالد ترامب خوض حرب جيدة بالكلمات مع القادة الأجانب. وإلى جانب الكوريين الشماليين، تشكل القيادة في إيران هدفاً من الدرجة الأولى بالنسبة له. وبعد كل شيء، كان إلغاء الصفقة النووية التي وقعتها إدارة الرئيس باراك أوباما مع طهران وخمس قوى عالمية في العام 2015 واحداً من التعهدات الرئيسية التي أطلقها في حملته الانتخابية.
منذ الأيام الأولى له في البيت الأبيض، حافظ ترامب على التهديد بأنه قد يسحب الولايات المتحدة بشكل أحادي من خطة العمل الشاملة المشتركة، الاتفاقية المتعددة الأطراف التي صادق عليها مجلس الأمن الدولي التابع للأمم المتحدة بالإجماع. ويشكل ذلك تحدياً لنظير ترامب في طهران، الرئيس حسن روحاني، الذي جعل من الصفقة إنجاز إدارته المركزي، والذي يعول راهناً على التزام الرئيس الأميركي بالصفق على الرغم من خطابه.
لكن روحاني لا يستطيع ترك تهديدات ترامب تمر من دون رد. وقد حذر يوم 15 آب (أغسطس) الحالي من أنه في حال فرض ترامب عقوبات جديدة على بلاده، فإن إيران قد تعيد الساعة النووية إلى ما كانت عليه قبل التوصل إلى الصفقة في العام 2015، وهي تستطيع فعل ذلك “خلال شهور وأسابيع وأيام”. وفي واشنطن، فُهم كلامه أنه يعني أن طهران ستلغي كل التنازلات التي قدمتها خلال عملية التفاوض، وأنها ستعود برمشة عين إلى عتبة قدرة امتلاك الأسلحة النووية.
لإيران سياساتها الخاصة التي لا ترحم. وتشكل مقامرة روحاني جهداً يرمي إلى منع شجب ترامب للصفقة من العمل كطوق يحيط بعنقه. وفي أسوأ الحالات، من الممكن أن تعيق معارضة الولايات المتحدة للصفقة أجندته المحلية، وأن تخدم كذخيرة لأعضاء جهاز الحرس الثوري الإيراني وغيرهم من المتشددين الذين لم يعتقدوا أبداً بأن واشنطن سوف تلتزم بتعهدها. وبالنسبة لروحاني، لم تكن الاتفاقية النووية غاية في حد ذاتها؛ لكن تطبيقها الناجح يمكن أن يشكل المنجنيق الذي يدفعه إلى أعلى مرتبة في الجمهورية الإسلامية. ومن الواضح أنه يبدو غير راغب في أن يُخرجه ترامب على مساره.
لا شك في أن روحاني الذي أعيد انتخابه مجدداً ينطوي على طموحات سياسية تظل كامنة في نفسه. ولعل من الآمن افتراض أنه يتطلع إلى شغل أعلى منصب في النظام، أن يصبح المرشد الأعلى للجمهورية الإسلامية.
في الأثناء، لا توجد لدى المرشد الحالي، آية الله علي خامنئي، البالغ من العمر 78 عاماً أي خطط للذهاب إلى أي مكان حتى الآن. لكن على روحاني أن يبدأ بتمهيد الأرضية إذا كان جاداً في تولي منصب خامنئي عندما يموت المرشد الأعلى الحالي. وفي سباقه على السلطة، وبأخذ تهديدات ترامب في الخلفية بعين الاعتبار، لا يملك روحاني أي خيار سوى رفع نبرة خطابه لتهدئة روع جناحه اليميني. وبالنسبة لروحاني، سيكون الظهور بمظهر ناعم في وجه تحذيرات ترامب مرادفاً للانتحار السياسي.
على الرغم من ذلك، تجري راهناً دراسة تصريحات الرئيس الإيراني الخاصة بمستقبل الصفقة النووية بعناية. لكنها لا تنطوي على تلميح من أي نوع إلى أن إيران تنوي إلغاء الاتفاقية النووية في أول فرصة تسنح لها. وفي الحقيقة، فإن وجهة النظر التي تتمتع بالإجماع في عموم الفضاء السياسي الإيراني تقول إن هدف ترامب يكمن في دفع طهران إلى التخلي عن الصفقة من جهتها.
وكما قال علي شمخاني، رئيس مجلس الأمن القومي الإيراني، فإن ترامب ينصب “مصيدة”، وإيران لن تسقط فيها. وفي مكان آخر، في إشارة إلى الأوروبيين والصين والروس، قال شمخاني أيضاً إن إيران “لا ترغب في الحفاظ على خطة العمل الشاملة المشتركة بأي ثمن، لأن الاتفاقية تكون صالحة فقط إذا استمرت كل أطرافها في احترامها”.
تريد إيران الضغط على أطراف الصفقة النووية الآخرين من أجل بذل قصارى جهودهم للتقليل إلى الحد الأدنى من الضرر الذي قد ينجم عن الموقف الأميركي. ويتجلى هذا أوضح ما يكون في إصرار طهران على تجاهل القوى الاقتصادية الرئيسية في أوروبا وآسيا دعوة ترامب للابتعاد عن الاقتصاد الإيراني. وبعبارات أخرى، فإن طهران منخرطة من خلال مناكفاتها المنهجية الخاصة في تشكيل الرأي العام الدولي عبر محاولة عزل ترامب. وطالما ظل كل الموقعين الآخرين على الصفقة مستمرين في التقيد بها، فإن الإيرانيين ليسوا في عجلة من أمرهم للانسحاب منها. كما أن القيادة في طهران لا تعتقد بأن ترامب سيتوافر على الرأسمال السياسي، في الوطن أو على المسرح الدولي، لحشد الدعم لفرض عقوبات جديدة على إيران.
يوم 15 آب (أغسطس) الحالي، أشار روحاني إلى نقطة أخرى لم تتلق قدر الانتباه الذي تلقته تصريحاته حول إعادة الساعة النووية إلى الوراء. قال إن الانتقاد الموجه لصفقة العام 2015 قد هدأ في داخل إيران. وهو محق، وهي نقطة مهمة. لم يعد روحاني يصور على أنه والد صفقة كان المقصود منها رفع العقوبات، لكن خصومه من الخط المتشدد يقولون إن ذلك تعهد ولد ميتاً. ومع انتهاء الانتخابات الرئاسية الإيرانية، أصبح المتشددون في إيران يوجهون إدانتهم بدلاً من ذلك إلى ترامب بسبب موقفه المعادي للصفقة.
ما الذي يجب أن تفهمه واشنطن من هذا الالتقاء السياسي في طهران؟ من المهم عدم التحمس كثيراً جداً. نعم، يوافق روحاني وحتى أكثر منتقديه شدة على أن الصفقة النووية هي أمر واقع وجديرة بالمحافظة عليها على حد سواء. لكن الأيام ستكشف عما إذا كان هذا الالتقاء سيفضي إلى مسار جديد للسياسات الإيرانية.
فيما يلي ما نعرفه عن الوضع. كان فوز روحاني الساحق في الانتخابات التي أجريت يوم 19 أيار (مايو) الماضي ممكناً فقط لأن الناخبين ذوي العقليات الإصلاحية اختاروا الخروج والإدلاء بأصواتهم. وقد أراد الـ24 مليون ناخب تقريباً الذين دعموه، والكثيرون كانوا مترددين، تمكين الرئيس من وضع سياسات جريئة تضغط في اتجاه الإفراج عن السجناء السياسيين ومن أجل زيادة تمثيل النساء والأقليات الدينية. وبعد كل شيء، كان ذلك ما وعد به كمرشح لفترة رئاسية ثانية.
لكن روحاني لم يظهر حتى الآن شهية لانتهاج الجرأة في ولايته الثانية. بل يبدو وأنه يكرر نهج ولايته الأولى -الاعتراف بأن التغيير في الجمهورية الإسلامية يمكن أن يتأتى فقط من خلال التعاون مع المرشد الأعلى وليس من خلال محاولة فرض أجندة على خامنئي.
وهو شأن دال على ذاته أصلاً. وما عليك سوى النظر إلى تسميات روحاني لأعضاء مجلسه الوزاري التي طرحها للتثبيت مؤخراً. لم يسع روحاني إلى نيل موافقة خامنئي فحسب قبل إرسال قائمته للبرلمان لإقرارها، في خطوة غير اعتيادية تتناقض مع الدستور، بل إن مرشحيه بالكاد ينتمون إلى الطبقة الإصلاحية.. وقد اضطر محمد خاتمي، الأكبر سنا والأقدم في الحركة الإصلاحية والذي كان قد دعم روحاني، إلى تذكير الرئيس علناً بوعوده الانتخابية خلال حملته.
في خطاب تنصيبه يوم الخامس من آب (أغسطس) الحالي، تجنب روحاني طرق أي موضوع قد يخيِّب أمل خامنئي. لم يكن هناك أي ذكر لتحرير السجناء السياسيين أو تساؤل عن الصلاحيات الضخمة التي يتمتع بها جهاز الحرس الثوري الإيراني أو تدخلات هذا الجهاز في سورية وفي العراق. وبدلاً من ذلك، ركز روحاني على تأكيد أنها لا توجد انشقاقات خطيرة في داخل النظام، مستبعداً فكرة ازدواجية السلطة في طهران وواصفاً إياها بأنها لا تعدو كونها خرافة. وقال إنه يجب على الشركات الأجنبية أن تشعر بالأمان للاستثمار في إيران.
وتجدر الإشارة إلى أن رئيس جهاز الحرس الثوري الإيراني، الجنرال محمد علي جعفري، لم يحضر حفل التنصيب -ربما في إشارة تتناقض مع محاولة روحاني إثبات أن السياسات الإيرانية متوائمة ومتصالحة. لكنها ليست كذلك. وروحاني ليس الوحيد الذي يريد تحريك البندول باتجاه المركز.
تشير تعيينات روحاني الأخيرة إلى رغبة في تقوية نواة النظام عبر الإبقاء على الإصلاحيين وأقصى اليمين على حد سواء خارج المناصب الرئيسية. وقد خلت تعييناته الأخيرة لمجلس الخلاص الذي يتوسط بين البرلمان المنتحب وبين مجلس التشخيص غير المنتخب من الإصلاحيين الراديكاليين ومن أي مرشحين من أقصى اليمين.
الحقيقة أن عمل خامنئي وروحاني بتناغم ليست مصادفة ولا يجب أن يشكل مفاجأة. فلا أحد منهما مهتم بوجود صدوع في داخل النظام. وفي الأثناء، ثمة استراتيجية قابلة التحقق لروحاني، فيما هو يتطلع إلى جعل نفسه الخيار الحتمي لتولي المنصب الأعلى عندما يحل اليوم الموعود، هي العمل على توسيع قاعدته.
عمد روحاني بنجاح إلى خطب ود الناخبين الإصلاحيين لجلب الدعم لنفسه في الانتخابات الرئاسية الأخيرة -ولكن، عند التأمل في مستقبل الأيام، نجد أن هذه ليست الدائرة الانتخابية التي يحتاج إليها أكثر ما يكون. وإذا كان يأمل في الصعود إلى أعلى منصب في الجمهورية الإسلامية الإيرانية، فإنه يحتاج إلى التحرك باتجاه المركز السياسي، بل وحتى أكثر باتجاه اليمين حيث يوجد جهاز الحرس الثوري الإيراني والمتشددين الآخرين. وفي الأثناء، يجب النظر إلى حرب الكلمات المحسوبة لروحاني مع ترامب في هذا السياق العريض: من غير المرجح أن تنتهك إيران الصفقة النووية ما دام الاتحاد الأوروبي وروسيا والصين متمسكين بها، لكن التهديد بالانسحاب منها سوف يساعد الاستراتيجة السياسية للرئيس الإيراني في الوطن.
أليكس فاتانغا
صحيفة الغد