منذ انتهاء الحرب الباردة بين الاتحاد السوفيتي السابق، والولايات المتحدة الأمريكية، تنوع واشنطن أدواتها بين القوتين الصلبة والناعمة في مواجهة القضايا الدولية، وتهديدات أمنها القومي، وفقا لتوجه الإدارة الأمريكية باختلاف الحزب الحاكم (الجمهوري أو الديمقراطي). إلا أنه مع تصاعد أزمة شبه جزيرة القرم أخيرا بين الولايات المتحدة وروسيا، سعت الإدارة الأمريكية لضم أداة جديدة لأدواتها، هي قوة الطاقة Energy Power بهدف الضغط على روسيا للتراجع عن مواقفها المناهضة للولايات المتحدة، وتفاديا للمواجهة العسكرية.
وفي هذا الشأن، نشرت مجلة الشئون الخارجية Foreign Affairs – الصادرة عن مجلس العلاقات الخارجية في عدد مارس/أبريل 2015- مقالاً بعنوان “القوة الصلبة، القوة الناعمة، قوة الطاقة.. الأداة الجديدة للسياسة الخارجية” للكاتب “مايكل كلير”.
في معنى الأداة
تناول كلير في تحليله الجدل المثار حول ما إذا كان الحفاظ على المصالح الأمريكية يكون عن طريق القوة الصلبة (الوسائل القسرية كالقوة العسكرية) أو عن طريق القوة الناعمة (وسائل أقل عدوانية للإقناع مثل الدبلوماسية، المساعدات الاقتصادية، والدعاية) أو قوة الطاقة كبديل عن القوة الصلبة في قسوتها وتفوق القوة الناعمة في نتائجها، وأثر ذلك على السياسات الأمريكية.
يحدد كلير مفهوم “قوة الطاقة” بأنه استغلال لمزايا الدولة في إنتاج الطاقة والتكنولوجيا لتعزيز مصالحها العالمية، وتقويض وإضعاف منافسيها. وهذا يعني، على سبيل المثال، إمداد الدول الصديقة والحلفاء بالطاقة، والتي تعتمد بشكل كبير في تلبية احتياجاتها على القوى المناوئة. وقد انعكس هذا المفهوم في الجهود الأمريكية في إبعاد الدول الأوروبية عن الغاز الطبيعي الروسي. كما قد تستخدم قوة الطاقة في وضع منصة لإنتاج النفط في المياه المتنازع عليها كوسيلة لتأكيد السيطرة، كما هو الحال في عمليات الحفر الصينية في بحر الصين الجنوبي.
ويرى الكاتب أن قوة الطاقة يمكن استخدامها لتعزيز العلاقات مع شريك جيواستراتيجي مثل الاتفاقيات النووية بين الولايات المتحدة والهند، أو لعقاب الدول المجاورة “المتمردة”، كما هو الحال في الإيقاف المتكرر لإمدادات الغاز الطبيعي الروسي لأوكرانيا. وعلى الرغم من أن قوة الطاقة غير قاسية كالقوة الصلبة، فإنها قد تؤدي إلى سياسات قد تفوق مستوى القوة الناعمة.
وعن تاريخ قوة الطاقة، أوضح الكاتب أنها ظلت إحدى أدوات إدارة الشئون الدولية لفترة طويلة، مشيرا إلى أنه في الوقت الذي سعت فيه اليابان لتوسيع قوتها في القارة الآسيوية، استخدمت الولايات المتحدة النفط، حيث كان المورد الرئيسي في الضغط على اليابان، ففرضت عقوبات صارمة على صادرات الطاقة لطوكيو لوقف سياساتها العدوانية في القارة الآسيوية.
كما أشار كلير إلى الفترة (1973- 1974م)، حيث سعت الدول العربية الأعضاء في منظمة الأوبك، في محاولة للحد من الدعم الخارجي لإسرائيل، إلى فرض حظر على صادرات النفط إلى الولايات المتحدة الأمريكية وهولندا، مما أدى إلى تباطؤ الاقتصاد العالمي. وفي هذا الإطار، لم تكن القوة الصلبة بعيدة عن أذهان صانعي القرار الرئيسيين. ويرى الكاتب أن قوة الطاقة حاليا أصبحت البديل المثالي والحيوي للقوة الصلدة، لا سيما مع صعوبة ومخاطر استخدام القوى العظمى القوة العسكرية في حل الصراعات بينها.
الطاقة كأداة ضغط
يشير الكاتب إلى أنه في الماضي، كان استخدام الطاقة كأداة ضغط يثير التحذيرات بإمكانية الرد العسكري للولايات المتحدة، ونشر السفن الحربية والطائرات المقاتلة لحماية إمداداتها من الطاقة.
ويضيف أن الجمهوريين الأكثر تشدداً في الوقت الراهن يبتعدون عن استخدام القوة العسكرية، حيث اتفق الديمقراطيون والجمهوريون على حد سواء باستخدام محدد الطاقة لعقاب الرئيس الروسي فلاديمير بوتين على مواقفه من الأزمة الأوكرانية. فالإدارة الأمريكية سعت من جانبها لمنع التمويل والتكنولوجيا الغربية التي تحصل عليها الشركات الروسية المتخصصة في مجال الطاقة، آملة أن يكون لذلك أثره على السياسة الروسية.
في حين يُفضل الجمهوريون استخدام قوة الطاقة من خلال إمداد الدول الأوروبية ببديل للغاز الروسي، وهي سياسة يراها رئيس مجلس النواب “جون بوينر” أنها ستقلب الطاولة، وتضع الرئيس الروسي في مأزق لزيادة إمدادات الغاز الطبيعي للدول الأوروبية كبديل للغاز الروسي.
وعن استخدام قوة الطاقة في قضايا منطقة الشرق الأوسط، يشير الكاتب إلى أن الارتفاع الأخير في إنتاج الولايات المتحدة من النفط ساعد في إجبار إيران على التوصل لاتفاق مؤقت حول النزاع بشأن أنشطتها لتخصيب اليورانيوم، حيث كانت إيران قادرة على مواجهة العقوبات الاقتصادية المفروضة عليها من قبل واشنطن، من خلال استغلال العطش العالمي لنفطها. إلا أنه مع ارتفاع إنتاج الولايات المتحدة من النفط، وجدت إيران نفسها منعزلة بشكل كبير.
الطاقة وسياسات واشنطن
عرض كلير عددا من الأسباب التي تفسر صدارة قوة الطاقة بين أنواع القوة المختلفة، ومنها: التردد في اللجوء إلى القوة الصلبة في مواجهة القوى العظمى، فضلا عن عدم رضا الكثير من الأمريكيين عن استخدام القوة الناعمة بمفردها، والسعي إلى أدوات أكثر فاعلية وتأثيرا لخدمة المصالح الأمريكية.
وما يجعل قوة الطاقة في صدارة أدوات القوة الناعمة، الزيادة الملحوظة في إنتاج الولايات المتحدة من النفط. فطبقاً لوزارة الطاقة الأمريكية، فإن إنتاج الولايات المتحدة من النفط قفز من مستوى منخفض يقدر بنحو 5 ملايين برميل يومياً عام 2008 إلى ما يقدر بنحو 9,2 مليون برميل في يناير الماضي، أي بزيادة تصل إلى 84%.
ومن المتوقع أن يزيد إنتاج الولايات المتحدة خلال السنوات القليلة القادمة ليصل إلى 9,6 مليون برميل في عام 2020. كذلك الإنتاج المحلي من الغاز الطبيعي يشهد حالة تزايد، فارتفع من 20,1 تريليون قدم مكعبة في عام 2008 إلى 24 تريليون قدم مكعبة في عام 2015، ومن المتوقع أن يصل إلى 36 تريليون قدم مكعبة عام 2035.
وفي سياق متصل، يرى الكاتب أن كثيرا من المحللين يتفقون على أن ارتفاع الإنتاج الأمريكي من النفط والغاز الطبيعي، بفضل ثورة الغاز والنفط الصخري، خفض من اعتماد الولايات المتحدة على نفط الشرق الأوسط، وإنهاء التبعية الأمريكية منذ فترة طويلة للدول النفطية الرئيسية، بجانب قدرة الولايات المتحدة على استخدام النفط والغاز كوسيلة ضغط لتعزيز مصالحها في الخارج.
كما أشار كلير إلى انتقاد الجمهوريين الإدارة الأمريكية بأنها تعوق من فرص الولايات المتحدة في استخدام قوة الطاقة الأمريكية بعدم إسراعها في إنشاء مرافق لتصدير الغاز في شكله السائل. ولكن الحقيقة – حسبما يوضح الكاتب- أن الرئيس الأمريكي باراك أوباما مغرم بقوة الطاقة، مشيرا إلى أن الإدارة عرضت المساعدة الفنية لبلغاريا، وبولندا، ورومانيا، وأوكرانيا، وغيرها من دول الاتحاد السوفيتي السابق، والتي تسعى لتطوير مواردها من الطاقة، فضلاً عن تقليل اعتمادها على الغاز الروسي.
وفي هذا الصدد، أشار إلى لقاء وزير الخارجية الأمريكي جون كيري مع المسئولين البلغار في يناير 2015، ووعده بدعم الولايات المتحدة لمزيد من المجهودات لتطوير مصادر الطاقة الجديدة، مقتبسا تصريحا لوزير الخارجية، نصه “يجب ألا تكون هناك دولة في العالم تعتمد كلياً في إمداداتها من الطاقة على دولة واحدة”.
مصدات دفاعية جديدة
يرى كلير أن تبنّي الولايات المتحدة لقوة الطاقة كان جليا في استراتيجية الأمن القومي التي تم الإعلان عنها مؤخرا، حيث تظهر نصوص وثيقة الأمن القومي – على حد تعبير الكاتب- أن إحياء الطاقة في الولايات المتحدة يقدم مصدات دفاعية جديدة أمام الاستخدامات العدائية للطاقة من جانب بعض الدول.
ويضيف الكاتب أنه على الرغم من الخلاف المستمر بين الحزبين الجمهوري والديمقراطي حول نسبة التركيز على القوة الصلبة والقوة الناعمة في مواجهة خصوم الولايات المتحدة، فإن كلا الجانبين حريص على زيادة الاعتماد على قوة الطاقة كأداة للسياسة الخارجية.
عرض: أحمد محمود مصطفى
مجلة السياسة الدولية