كل بضع دقائق، يُسمع انفجار يصم الآذان. ثم صفير قذيفة مدفعية. ومن حين لآخر، تُسمع قعقعة شاحنة صغيرة، مكتظة بالجنود، تتقدم نحو خط الجبهة.
كان هذا هو الحي على الحافة الغربية للرقة، عاصمة “داعش” بحكم الأمر الواقع، حيث التقيت حسن هاشم رمضان ذات يوم خميس لاهب في أواخر آب (أغسطس) الماضي.
وكان السيد رمضان قد تعرض للاعتقال والجَلد ثلاث مرات بينما كان تنظيم “الدولة الإسلامية” يحكم هذه المدينة: إما لأن لحيته قصيرة أكثر من اللازم، أو لأن سرواله لم يكن قصيراً بما فيه الكفاية. وعندما حاول الهرب عبر نهر الفرات، تم اقتيادة تحت حد البندقية إلى مركز المدينة. وأخيراً، ذات صباح ثلاثاء في آب (أغسطس)، أصابت شقيقه شظية قذيفة أطلقتها القوى التي تحارب “داعش”. وحمله السيد رمضان بين ذراعيه، أولاً إلى المستشفى، ثم إلى القبر، قبل أن يفر من المدينة.
قال: “في الأيام القليلة الأخيرة، كنت آخذ الجرحى إلى المستشفى أو أدفن الموتى. هذا كل ما كنتُ أفعله”.
كان السيد رمضان واحداً من عشرات الناس الذين وصفوا لي الحياة في أيام احتضار عاصمة الخلافة، القلب الرمزي للأراضي التي سعى “داعش” إلى تحويلها لتجسد رؤيته الوحشية لحكم الله في الأرض.
وأخيراً، قامت القوات العسكرية الأميركية وحلفاؤها بمحاصرة المدينة، مستعيدين -كما يقولون- أكثر من نصفها. وأصبح “داعش” في تراجع، وإنما ليس من دون قتال عنيد، حيث يحتجز مقاتلوه المدنيين في آخر ما تبقى من جيوبهم القليلة.
الآن، بقي أقل من 25.000 مدني في ما كانت ذات مرة مدينة يقطنها 300.000 مواطن. وقد وصف أولئك الذين فروا من المدينة كمّاشةَ موت من الغارات الجوية، ونيران المدفعية، والألغام الأرضية التي تملأ كل طريق للخروج. والعطش أيضاً، حيث لم يتبق الكثير من الماء للشرب داخل المدينة، كما يقولون.
وجدتُهم خلال رحلة ستة أيام من المنطقة الكردية من العراق إلى شمال شرق سورية. كانوا يعيشون في خوف وبلا يقين، إما على طول الطرق المفخخة التي دمرها القصف، المفضية إلى خارج مركز المدينة، أو في مخيم مؤقت على بعد ساعتين ونصف إلى الشمال، أو مستلقين في أسرة المشافي أبعد إلى الشمال، بأجسادهم المحطومة.
طبيب، خيّاطة، أطفال، كانت حياتهم مجمدة في حالة من التوقُّف الموجع. لم يكونوا يعرفون أين سيذهبون تالياً، أو تحت حكم أيِّ طرف سيعيشون.
في حي في غرب الرقة، حيث طُرد “داعش” منذ وقت قريب، تستلقي فوزة حميدي على مرتبة على أرضية منزل شقيقتها، متلوية من الألم. كانت قد حاولت الخروج من الرقة قبل بضعة أسابيع. لكن امرأة أمامها داست على لغم وماتت على الفور. واخترقت شظايا الانفجار ظهر السيدة حميدي وساقيها، وأطلق قناص داعشي النار عليها، ثم جرها مقاتلو “داعش” إلى سجن مؤقت. ويتم دفن ضحايا الألغام الأرضية بسرعة هناك، كما قالت. وما تزال رائحة الموت تعشعش في أنفها.
ظهرت امرأتان في المنزل لترويا قصتيهما. قالت إحداهما إن “داعش” قطعوا رأس زوجها بتهمة مساعدة عائلة مسيحية على الهرب. وأرتني الأخرى يدها المتورمة. ضرب رجل من “داعش” رسغها بعقب بندقيته، وكسر عظامها. وكانت جريمتها هي رؤيتها في السوق من دون غطاء كامل للوجه.
في الخارج، قال شاب إن رأس والده قُطع بتهمة التخطيط للانضمام إلى ميليشيا مناهضة لـ”داعش”. وكان يعرف الرجل الذي فعل ذلك. وسأله أحد الجيران: “لماذا لا تقتله؟”.
قال: “دعه يغادر المدينة وسأفعل. سوف أذبحه”.
كان الحي مهجوراً إلى حد كبير. وقد تم تحويل مدرسة ابتدائية إلى قاعدة عسكرية لحلفاء الولايات المتحدة الذين يقاتلون “داعش”، من الميليشيات الكردية والعربية المعروفة باسم “قوات سورية الديمقراطية”.
عند منتصف النهار، حلقت درجات الحرارة لتصل إلى أكثر من 40 مئوية. وكنت تستطيع أن تسمع هدير طائرة مقاتلة وهي تحلق فوق مركز المدينة، يعقبها صوت راعد، ثم صعود عمود من الدخان الأبيض الذي ينتشر على صفحة السماء الزرقاء الصافية.
تشكل الغارات الجوية خطراً جديداً على المدنيين؛ حيث قتلت ما يقدر بنحو 800 شخص منذ بدأ التحالف الذي تقوده الولايات المتحدة هجومة على المدينة في حزيران (يونيو)، وفقاً للمجموعة المستقلة، المرصد السوري، وأكثر من 150 في آب (أغسطس) وحده، وفقاً للأمم المتحدة.
أما أولئك الذين يتمكنون من الخروج، فغالباً ما تسكن عيونهم نظرات زائغة مجنونة. والذكريات تطاردهم، الجيدة والسيئة على حد سواء.
كانت خولة الخلف، الخياطة، تعيش بالقرب من ساحة النعيم، حيث تتمشى العائلات عند الغروب وتبث مكبرات الصوت أغنيات المطربة اللبنانية المعروفة، فيروز.
والآن، تستطيع خولة أن تفكر فقط بالرؤوس التي كانت تُعرض في الساحة على العصي. ومن بين الذين قطعت رؤوسهم كان قريبٌ لزوجها، إمام في جامع المدينة تحدى مراسيم “الدولة الإسلامية”.
وتقول خولة: “لم تعد تُسمى ساحة النعيم، إنها تدعى ساحة الجحيم”.
على مدى عام كامل، تنقلت هي وعائلتها من مدينة إلى أخرى. وتقول: “أتمنى لو أننا متنا في العام 2010 بدلاً من التعرض للإذلال بهذه الطريقة”.
ونظرت خولة إلى الطريق المهدوم الذي يمر بجوار خيمة فارغة أعطيت لعائلتها، مباشرة خارج حدود المدينة. وعلى الطريق تهادت جنازة مقاتل كردي سقط في القتال.
بينما يهبط المساء، تقدمت قافلة من حاملات الجنود المدرعة نحو خطوط الجبهة، حاملة جنوداً أميركيين. لم تقل إدارة ترامب كم هو عدد القوات الأميركية التي انتشرت في سورية، لكنك تراهم في كل أنحاء الشمال السوري، من ضفاف نهر دجلة في الزاوية الشرقية القصية، وعلى طول الحدود مع تركيا، وهبوطاً إلى الرقة.
يعني العيش في منطقة حرب أن ترتبَ سلوكك وفقاً لقواعد الرجال المسلحين الذين يحكمون القطاع الذي تعيش فيه. عليك أن تفكر في لون غطاء الرأس الذي يمكن أن ترتديه، وكم يجب أن يكون طول سروالك.
بالنسبة للرجال الذين جاؤوا من مناطق “داعش” وإلى المخيم المؤقت في بلدة عين عيسى التي تسيطر عليها قوات سورية الديمقراطية، على بعد ساعتين ونصف بالسيارة من مدينة الرقة، كان واحد من أولى أوامر العمل هو دخول دكان حلاق مسقوف بالصفيح.
وهناك، يجلس أبناء العم من عائلة عبد الله، الرجال الطوال عريضو الأكتاف باللحى الكثة التي تخفي أعناقهم في كرسي الحلاق، واحداً تلو الآخر. كانوا قد فروا من دير الزور، المدينة الأبعد على ضفة نهر الفرات، حيث زعم الجيش السوري أنه كسر حصار “داعش” هذا الأسبوع.
قال الرجال إنهم تركوا زوجاتهم وأولادهم خلفهم لأنه كان من المستحيل على الأسرة أن تسير كل الليل. وقال محمد عبد الله، 38 عاماً، والذي كان يعمل ساحق شاحنة: “كنتُ أبكي. وكانت زوجتي تبكي”.
وأبقى محمد فقط على شاربيه، بينما تساقطت لحيته على الأرض.
أما ابن عمه، خلف، فتخلص من كل شيء دفعة واحدة. وقال إنه لم يحلق منذ ستة أشهر، في إطاعة لمراسيم “الدولة الإسلامية”. وأضاف خلف: “في الخارج كنتُ أفعل ما يطلبونه”.
كان من المستحيل معرفة مَن مِن بين الرجال في دكان الحلاق، إذا كان ثمة أحد، قد انجر إلى “الدولة الإسلامية”. وقال الناطق باسم قوات سورية الديمقراطية، مصطفى بالي، إن قواته احتجزت الكثيرين من أفراد “داعش” الذين كانوا يحاولون الاختلاط بالمدنيين النازحين.
ثمة شاب اسمه علي، والذي أراد الإبقاء على جزء بدقة خط قلم الرصاص من شعر اللحية على طول فكيه، والذي ما يزال مُقيداً بقواعد “داعش”. وقال: “حتى وجهُك ليس لك. إنهم يريدون السيطرة عليه”.
ينتهي المطاف بالعديد من الجرحى الذين يفرون من الرقة في مستشفى تل الأبيض، على بعد ساعتين بالسيارة أبعد إلى الشمال، حيث احتجز “داعش” ذات مرة أسراه في قفص على دوار السير الرئيسي.
وحذرت مجموعة الإغاثة “أطباء بلا حدود” التي تقوم بمعالجة الجرحى هنا، من أن العديد من الجرحى ربما يكونون عالقين داخل المدينة، غير قادرين على العبور عبر القنطرة. وبحلول الوقت الذي يصلون فيه، كما تقول مجموعة الإغاثة، تكون جراحهم قد التهبت، وأصبح إنقاذ أطرافهم أكثر صعوبة.
البعض منهم يجدون وجهاً مألوفاً في الدكتور محمد أحمد صالح، الطبيب السابق في المستشفى الحكومي في الرقة. وكان قد عمل لأكثر من سنة هناك تحت حكم “داعش”. ويقول: “كانت بنادقهم الكلاشينكوف مصلتة دائماً على رؤوسنا”. ومثل الكثيرين من أهل الرقة، كانت الفوضى مكتوبة على وجهه: شعر شائب مشعث، وعناء يوم كامل، وعينان محمومتان.
وقال: “في أي لحظة يمكن أن يقطعوا رأسك. حاولت أن أناقش الأشياء معهم. لكنهم لا يؤمنون بأي شيء غير ما يؤمنون به، حتى الحقائق نفسها”.
في مدخل المستشفى جلست امرأة شابة على نقالة، وقد جُمعت ساقها الممزقة معاً بسوار معدني. كانت داخل خيمة على ضفاف نهر الفرات خلال غارة قصف جوي.
وفي كل غرفة إنعاش تقريباً، هناك أطفال. وعادة ما يكون الأطفال أول من يكتشفون القنابل منزلية الصنع، مزروعة في الألعاب، وأباريق الشاي، أو مخبأة تحت سجادة.
جلست طفلة بعمر 6 سنوات، جودي، منتصبة في السرير، وقد التهمت ظهرها وبطنها شظية من لغم أرضي؛ وأشقاؤها الثلاثة ماتوا.
وفي الجوار، تستلقي طفلة بعمر 4 سنوات، عهد، ورأسها على حضن أمها. كانتا تسيران خارجتين من الرقة فجراً في اليوم السابق عندما سمعتا انفجاراً كبيراً. تمزقت ساق الطفلة اليمنى. وكان أبوها قد مات قبل بضعة أيام في غارة جوية. وثمة أم أخرى تتنقل من سرير إلى سرير. وقد جُرحت خمس من بناتها في الانفجار نفسه.
ويتجمع الأطباء حول سرير آخر، ويوصلون الأخبار لرجل يستفيق من عملية جراحية. أخبروه بأن زوجته ماتت بينما كانت تحاول الفرار من الرقة، وبأنهم اضطروا إلى بتر ساقيه الاثنتين.
وتستلقي ابنته بعمر 5 سنوات في السرير المجاور، نائمة، وقد تمزقت ساقها اليسرى هي أيضاً. أما الأخبار الجيدة، كما قال الأطباء، فهي أنهم تمكنوا من إنقاذ الساق.
سوميني سينغوبتا
صحيفة الغد