«الصين حضارة» عبارة رددها عديدون من موظفي الإمبراطوريات العظمى ممن قضوا في الصين سنوات من عمرهم، ردّدها بعدهم أدباء ومفكرون ورجال حكم تعاملوا مع الصين من بعدما أقاموا فيها وكتبوا عنها. عبارة صارت مأثورة لدى أبناء جيلي وأجيال أحدث عندما سطرها قلم هنري كيسنجر، أستاذ العلاقات الدولية والتاريخ الديبلوماسي للإمبراطوريات الأوروبية ووزير خارجية الولايات المتحدة لفترة بالغة الأهمية في الحرب الباردة ومستشار بالتعاقد أو التكليف لدول غير الولايات المتحدة. لم يخطئ أحد من الذين صاغوا هذه العبارة. يعترف بهذا كل من أقام في الصين إقامة مطولة فاحتكّ بشعبها ومثقفيها وأعضاء طبقتها البيروقراطية العتيدة. سمعت أحد كهول الصين يقول إنه يكفي الشخص أن يحفر في الأرض مسافة قدم أو قدمين، أو يدخل في حوار لمدة ساعة مع رجل دولة نشأ وتربى في أحضان بيروقراطية الحزب أو الدولة ليعرف معنى العبارة: الصين حضارة.
أضيف، وعن تجربة شخصية، أنه يكفي الشخص ليعرف أن الصين حضارة، أن يراقب أداء مجموعات عمل وقطاعات أنشطة متنوعة تعمل لمدة ثلاث سنوات للإعداد للانعقاد الدوري لمؤتمر الحزب الشيوعي الصيني، وهو المؤتمر التاسع عشر ذو الطبيعة الخاصة، فهو المكلف إعداد أجهزة الدولة الصينية لتولي مسؤولية قيادة العالم عام 2050. أنا كمراقب للصين من بُعد ومتابع للجهد المبذول فكراً وعقيدة وإدارة، تمهيداً لإطلاق المرحلة الانتقالية من عهد التواضع الذي أوصى به الرئيس دينغ وسار عليه خليفتاه في منصب الرئاسة، إلى عهد الجرأة في طرح المطالب وحماية المصالح وتثبيت المكانة التي يصر عليها ويخصص لها الرئيس شي هذا المؤتمر، أشهد بأنني كدت أحياناً وفي وقت مبكر أعترف بأن من صاغوا عبارة «الصين حضارة» أو رددوها لم يخطئوا ولم يبالغوا.
الملاحظات التالية على جوانب محدودة من أعمال المؤتمر ونتائجه قد تجد لي العذر إن تحمّست أو بالغت.
أولاً: تنبّهت القيادة السياسية في الصين إلى خطورة الاستمرار في الحكم بأيديولوجية لم تتطور منذ عهد الرئيس دنغ، أي منذ ما يزيد على ثلاثين عاماً. لا يجوز أن يستمر تلاميذ المدارس والجامعات وشباب الحزب يرددون بالإيمان المعتاد أو المتوقع نصوصاً أيديولوجية لا تتناسب وظروف المرحلة وأهداف الحزب. لذلك قرر المؤتمر العام للحزب في أول جلساته إضافة ما نصه «فكر شي جينبينغ عن اشتراكية بسِمات صينية لعهد جديد»، مبدأ أيديولوجياً، إلى قائمة المبادئ التي يقوم عليها الحزب ويحفظها كل الناس المسيّسين وبخاصة أعضاء الحزب. بهذه الإضافة إلى دستور الحزب، أصبح شي جينبنغ رابع الخالدين في الفكر الاشتراكي العالمي بعد ماركس ولينين وماو. لنا أن نتخيل أيضاً السلطة الهائلة التي سوف تكون رهن مشيئة الرئيس شي في الولاية الثانية وحقه في أن يكسر قاعدة الخلافة ويطلب الاستمرار في الحكم مدى الحياة أسوة بالرئيس ماو وأباطرة الصين العظام. جدير بالذكر أن هذه الإضافة الأيديولوجية لم تفاجئ مراقبين تابعوا في عهد الرئيس شي التغيرات المتدرجة في السياسة الخارجية الصينية، وبخاصة الشعارات المرافقة لمشروع الحزام والطريق، ومنها شعار التزام الصين بتحقيق عولمة بصفات صينية تحل محل العولمة بالصفات الأميركية المنحسرة حالياً. لاحظنا بكل الاهتمام الممكن قبل المؤتمر وخلاله، تأكيد الرئيس وغيره من القادة على الهدف الأعلى للصين، وهو تولي مسؤولية قيادة العالم منفردة عند حلول منتصف القرن.
ثانياً: تعودنا خلال متابعتنا أحوال الصين أن ننتبه إلى أي خلل يصيب العلاقة المثلثة في نظام حكم الصين. أقصد بالعلاقة المثلثة شبكة التفاعلات الجارية بين الجيش والحزب والدولة. أقصد بالدولة هذا الجهاز البيروقراطي العتيد ذا المليون ذراع. قيل لنا إنها شبكة تمتد جذورها في التاريخ الإمبراطوري، وكثيراً ما تسبّب خلل فيها في نشوب ثورات وحروب أهلية وتهديد للاستقرار تتبعه مجاعات رهيبة، وهي كانت دائماً تشغل بال الرئيس ماو حتى احتلت صدارة اهتماماته. كان يعرف أن أي اختلال في التوازن بين السلطات الثلاث يمكن أن يقضي على الثورة. لهذا السبب انشغل الرئيس ماو بنظرية الثورة الدائمة في الفكر السياسي الصيني وتطوير نظرية الصعود الحلزوني للاشتراكية. خلص الزعيم الصيني إلى أنه لا بد من العمل بلا توقف لمنع الاستقرار أو الهدوء الطويل الأجل، لأنه في ظل الهدوء واستقرار الأوضاع يقوى الفساد وتتضخم الشلل والتحالفات وينسج التآمر ضد الثورة خيوطه. لذلك أنشب الرئيس ماو الثورة الثقافية وسمح فيها للشباب باستخدام درجة عالية من العنف.
بعد الرئيس ماو، جاء خلفاؤه ببدائل سلمية للثورة الدائمة. آخرهم الرئيس شي الذي انتهز فرصة حملته ضد الفساد ليقضي على الشِلَل التي جربت تضخيم قوة الدولة أو الحزب أو الجيش على حساب الطرفين الآخرين في العلاقة المثلثة. ونجح فعلاً في صنع توازن جديد بين أطراف العلاقة المثلثة. تكلف الحزب والدولة معاً في هذا التصحيح الأخير للتوازن أكثر من مليون عضو ومسؤول بيروقراطي متهمين بالفساد، وتكلف الجيش معظم أعضاء اللجنة العسكرية للحزب ومئات من كبار الضباط. تجربة هي بلا شك، أسلوب حكم بصفات صينية لا يقوى على الدخول فيها نظام آخر.
ثالثاً: لا جدال في أن طريق الحرير جزء أصيل من تراث الصين وعلامة من علامات الحضارة الصينية. الرئيس شي والحزب لا ينكران هذا الأصل والفضل، لكنهما يعتبران مشروع الحزام والطريق حلقة من حلم وفكر الرئيس شي وإضافة تاريخية وأيديولوجية رائدة في الفكر الاقتصادي ونظريات التكامل ومبادئ العلاقات الدولية. ضروري لنا أن نقرأ الانتقادات لمشروع الحزام والطريق التي تصدر عن المسؤولين والإعلاميين الهنود وغيرهم في غرب أوروبا والولايات المتحدة. يكشف بعض هذه الانتقادات عن خشية حقيقية مما يمكن أن يحققه هذا المشروع من تغييرات جوهرية في الدول والأقاليم التي سوف يرتكز إليها أو حتى يمر بها. فإذا وضعنا في الاعتبار أن المشروع يهدف إلى الارتباط المشترك بأكثر من ستين دولة وإقامة أكبر تجمع تكاملي في قارة أوراسيا ندرك مبعث الخشية لدى الهند بشكل خاص ومنتقدين آخرين. هؤلاء يضربون المثل بالتغييرات التي حدثت بالفعل نتيجة المشاريع التي أقامتها الصين ضمن برنامج الطريق والحزام في مقاطعات شرق الصين، وفي أقاليم باكستانية كان حظها أن تقع على خط طرق النقل التي تمدها الصين لتربط بين قلب الصين والساحل الباكستاني المطل على بحر العرب عند الإقليم المحيط بميناء جوادار الباكستاني. يضربون مثلاً آخر بالمشاريع الصينية التي يجري تنفيذها في شرق أفريقيا، ابتداء بخط سكة حديد رفضت دول الاستعمار الأوروبي مده، وانتهاء بقاعدة في جيبوتي متعددة الأغراض البحرية والبرية وأغراض الاتصال والتجارة.
سمعت من يحدد مراحل نضوج الدولة العظمى بثلاث، هي مرحلة الجنون ومرحلة البراغماتية ومرحلة الوصول إلى القمة وممارسة القيادة. سمعته يأتي بأمثلة من إمبراطوريات كبيرة ودول عظمى، مثل فرنسا وبريطانيا وأميركا، مرّت بهذه المراحل، اختصرت إحداها وأطالت في أخرى، لكنها لم تفلت من واحدة منها. حاول بعد قوله هذا التنبؤ بمستقبل الصين بعد أن مرّت بمرحلة الجنون في عهد الرئيس ماوتسي تونغ ومرحلة البراغماتية في عهد الرئيس دينغ شاوبينغ وهي الآن تخطو خطوات جريئة نحو المرحلة الثالثة في عهد الرئيس شي جينبينغ. يقول الصينيون إنه عندما تكتمل لديهم العناصر الأحدث للقوة الاستراتيجية وتتوافر لهم قواعد وتتأكد مصادر للنفوذ في أكثر من4 ستين دولة عبر برنامج الحزام والطريق، سوف تكون الصين قادرة على المساهمة بحكمة في تسوية النزاعات الدولية. بكلام آخر، تكون الصين جاهزة لإطلاق عصر «السلم الصيني»، أسوة بعصر السلم البريطاني حتى نهاية الحرب العالمية الأولى، وبعصر السلم الأميركي على امتداد غالبية القرن العشرين. جدير بالذكر أن السلم الصيني «باكس سينيكا» (Pax cinica) ساد فعلاً على مستوى إقليمي في الفترة من 1683 إلى 1795.
جميل مطر
صحيفة الحياة اللندنية