يوحي رد إيران العنيف، سواء عبر تصريحات المسؤولين الإيرانيين أو عبر خطاب أمين عام حزب الله حسن نصرالله، على الاتهامات التي وجهها لها رئيس الوزراء اللبناني المستقيل سعد الحريري بأنها تدرك مدى صعوبة المأزق الذي باتت تواجهه، بسبب حرصها على استغلال نفوذها الإقليمي في سياق الصراع المحتدم مع واشنطن حول برنامجها النووي ودورها التخريبي في المنطقة.
اهتمت إيران كثيرا بمكان إعلان الاستقالة ولم تنظر في أسبابها المنطقية ولا رسائلها الإقليمية والدولية المتعددة. وزعم المتحدث باسم وزارة الخارجية الإيرانية بهرام قاسمي أن “الادعاءات غير المبررة ضد إيران من قبل رئيس وزراء لبنان دليل آخر على أن هذه الاستقالة سيناريو جديد للتوترات في لبنان والمنطقة“.
اتهم حزب الله السعودية بـ”إجبار الحريري على الاستقالة”. ركز حسن نصرالله على مهاجمة المملكة العربية السعودية، في صورة بدا فيها ناطقا رسميا باسم إيران، وحصر قرار الحريري في إطار حرب بين الرياض وطهران.
وحاول أمين عام حزب الله تهييج الرأي العام من خلال تصريحات من قبيل أن هناك “أسئلة مشروعة” تثار في لبنان حول ما إذا كان الحريري محتجزا في السعودية. وقال إن “زعماء لبنان السياسيين يتوقعون عودته إلى البلاد يوم الخميس إذا أُذن له بالعودة”.
في المقابل، لم يركز نصرالله في خطابه الذي بثته قنوات تابعة للحزب على شاشاتها، على الاستقالة وتداعياتها على الداخل اللبناني والانتخابات النيابية القادمة وحل حكومة تصريف الأعمال، التي أجبر الحزب سعد الحريري على تقديم تنازلات والدخول في تسويات معه، ما جعل البعض يصفه بـ“زعيم الحلول الوسطى”.
فمن أجل أن ترى الحكومة النور ويخرج البلد من حالة الاستعصاء التي دامت قرابة العامين، وحل أزمة الرئيس الغائب اضطر الحريري إلى التوصل إلى تسوية مع حزب الله، مثلما وجد نفسه مضطرا، من قبل، إلى التعامل مع حزب الله بالرغم من اتهام أعضائه من قبل المحكمة الدولية الخاصة بلبنان في قضية اغتيال والده.
لكن اليوم الوضع مختلف، لم يعد سعد الحريري نفس الشخص الذي وجد نفسه سنة 2005 مقحما في أتون السياسة الداخلية في لبنان بعد اغتيال رفيق الحريري. كان عليه أن يثبت لتيار المستقبل وللبنان، بمختلف طوائفه التي آمنت ولا تزال تؤمن بلبنان رفيق الحريري، وللقوى الإقليمية أنه يمكن تجاوز خط الحلول الوسطى عندما تصبح هذه الحلول أسبابا في تدهور الوضع.
ولا تنفصل هذه الخطوة عن المعطيات الجديدة التي بدأت الاستراتيجية الأميركية تفرضها على الأرض، خاصة أنها تعتبر أن لبنان من أهم ساحات اختبار هذه الاستراتيجية.
ولا يعود ذلك فقط إلى العقوبات الجديدة التي فرضها الكونغرس على حزب الله في أكتوبر 2017، وإنما أيضا إلى اهتمام واشنطن بدعم دور الدولة اللبنانية في مواجهة الحزب ووليّ أمره، وهو ما عكسه تأكيد الرئيس الأميركي دونالد ترامب خلال لقاء جمعه مع سعد الحريري بواشنطن في يوليو الماضي، أن “لبنان في الخط الأمامي في مواجهة داعش والقاعدة وحزب الله“.
وعرّض هذا اللقاء تحديدا الحريري لانتقادات قوية من جانب إيران وحزب الله ووسائل إعلامهما، رغم أن رئيس الحكومة المستقيل حرص على تأكيد أن ترامب لم يطلب منه التشدد حيال إيران، فضلا عن أن حكومته مارست ضغوطا مسبقة من أجل إجراء تعديلات على التشريعات الخاصة بالعقوبات بهدف تقليص تداعياتها المتوقعة على اقتصاد لبنان واستقراره السياسي والأمني.
وتعد الدلالة الأبرز أن خطوة الاستقالة المفاجئة جاءت بعد يوم واحد من لقاء جمعه في بيروت مع مستشار المرشد الإيراني للعلاقات الدولية علي أكبر ولايتي، الذي كان حريصا على القول إن “إيران تحمي استقلال لبنان وقوته وشعبه وحكومته”، لذلك بدت الاستقالة في اتجاه عكس ما تفوّه به ولايتي.ورغم أن ولايتي أشاد خلال زيارته بحكومة الحريري، إلا أن ذلك لا ينفي أن تصريحاته حملت تهديدات مبطنة للأخير، مفادها أن طهران تستطيع التحكم في استقرار لبنان السياسي من خلال حزب الله المشارك في الحكومة، ولديها قدرة على الإطاحة بها حال ارتأت أن ذلك يتوافق مع حساباتها.
وكان لافتا أن ولايتي تعمّد إعلان استعداد النظام السوري والميليشيات الحليفة، ومنها حزب الله، للتحرك باتجاه مدينة الرقة من أجل استعادتها من ميليشيا قوات سوريا الديمقراطية (قسد)، ما يعني أن مواجهة سياسية جديدة يمكن أن تنشب مع واشنطن.
وهنا يمكن القول إن حرص ولايتي على تحويل التطورات السياسية والميدانية السورية إلى عنوان رئيسي لزيارته بيروت، لم يكن الهدف منه فقط الإيحاء من جديد بأن إيران الطرف الرئيسي الذي بمقدوره التحكم في دور حزب الله داخل سوريا، والذي كان يمثل ملفا ضاغطا على الحكومة، في ظل الانتقادات التي واجهتها بعدم تبني موقف حازم تجاهه، وإنما الهدف الأهم هو إعطاء دفعة للمزيد من التطبيع مع النظام السوري.
وتجدد الجدل حول ملف الاستقالة داخل لبنان في الأيام السابقة، بعد قيام الحريري أواخر أكتوبر الماضي بتعيين سعد زخيا سفيرا للبنان لدى دمشق، الذي أشارت بعض التقديرات إلى أن ذلك تم بعد ضغوط قوية من جانب حزب الله، ومن خلفه إيران بالطبع، في سياق مساعي تعزيز فرص تحسين العلاقات بين النظام السوري وبعض دول الجوار.
تزامنت الاستقالة مع زيارة كان سيقوم بها الرئيس اللبناني ميشال عون إلى الكويت، في 5 من نوفمبر 2017، على رأس وفد يضم اللواء عباس إبراهيم مدير إدارة الأمن الوطني، كانت إشارة لها مغزاها وحاول من خلالها الحريري الإيحاء بتورط حزب الله في خلية العبدلي الإرهابية، التي قامت السلطات الكويتية بتفكيكها ومحاكمة أعضائها مستندة إلى أدلة تدين تورط إيران والحزب في تهديد أمن واستقرار الكويت.
ومن المرجح أن تضفي هذه التطورات المزيد من الزخم على الاتهامات التي توجهها قوى عديدة لإيران وحزب الله ودورهما في تأجيج الصراعات الإقليمية ونشر الفوضى وعدم الاستقرار، في ظل حرص طهران على دعم الميليشيات الإرهابية الموجودة في بعض دول الأزمات، على غرار سوريا واليمن والعراق.
اللافت أيضا أن توقيت الاستقالة تزامن مع احتفالات إيران بذكرى اقتحام السفارة الأميركية في 4 نوفمبر 1979، حيث عرضت صاروخ قدر الباليستي بالقرب من مقر السفارة، والذي يبلغ مداه ألفي كيلو متر، في إشارة إلى تهديداتها السابقة باستهداف المصالح الأميركية في المنطقة والتي تقع في نطاق مدى هذا الصاروخ.
ويمنح التزامن وجاهة خاصة على الاتهامات الموجهة لإيران بشأن محاولة توظيف نفوذها الإقليمي لدعم موقفها في صراعها مع الولايات المتحدة، والذي دخل مرحلة جديدة لن يقتصر فيها على أزمة برنامجها النووي، وإنما يمتد إلى دورها الإقليمي، خاصة في كل من سوريا ولبنان.
عكست هذه المؤشرات تصريحات المسؤولين الإيرانيين خلال الفترة الأخيرة، مثل علي شمخان أمين المجلس الأعلى للأمن القومي الإيراني الذي قال في 31 أكتوبر الماضي “إيران وحزب الله متواجدان في جميع أنحاء سوريا”.
ويمثل ذلك إشارة جديدة تحاول من خلالها إيران توجيه رسائل إلى خصومها وحلفائها في آن واحد، تعني أنها لن تسمح بصياغة ترتيبات سياسية وأمنية تهدد مصالحها في سوريا، وباستطاعتها فتح جبهة جديدة للصراع تبدأ من لبنان.
وبالتالي، توحي كل التحركات المتسارعة والمصالح المتقاطعة بأن لبنان مقبل على استحقاقات دقيقة في ظل تصاعد حدة الصراع بين طهران وواشنطن خلال المرحلة القادمة، ودخول قوى أخرى على الخط يعني أن ثمة ترتيبات يمكن أن تكون قاسية على إيران وحلفائها.
محمد عباس ناجي
صحيفة العرب اللندنية